تفاصيل المقال

الخط العربي في خدمة القرآن العظيم  -بقلم: أ. د.حسن المعايرجي

الخط العربي في خدمة القرآن العظيم -بقلم: أ. د.حسن المعايرجي

شَرُفَ الخط العربي أو إن صحّ التعبير (الخط القُرآني) بتدوين القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مُبين، إنه ذلك الحرف الجميل الذي تبارى في تجويده وتحسينه المسلمون على مر العصور والقرون حتى بلغ من الروعة والجمال مبلغاً جعل غير الناطقين بالعربية يُقيمون له المعارض والمتاحف إحساساً منهم بجماله، وشعورًا بروعته، حتى وإن لم يفقهوا ما في هذه الخطوط واللوحات من معانٍ سامية.


 

 

إننا إن سطَّرنا الحرف (ن) أو (ص) أو (ق) فإنما نكتب كتابة قرآنية بحرف عربي زاد شرفاً على شرف، وعزاً على عز كُلما نُسخ به مصحف شريف، وكلما طبع به القرآن الكريم، لهذا تبنت الأمم هذا الحرف وذاع صيته وانتشر، وكتبت دول  وأمم كثيرة لغاتها به، تبركاً وتقرباً من لغة القرآن الكريم حتى انتشر من الصين إلى الأطلسي، ومن أصقاع سيبيريا إلى أواسط أفريقيا.

 

ومن الشعوب التي اهتمت بالخط العربي (القُرآني) اهتماماً كبيراً الشعوب التركية؛ فقد كتبت به لغاتها ولهجاتها التي يتحدث بها ما يزيد عن مئتي مليون من: (أوزبك، وتتار، وتركمان، وآذاريين، وأتراك، وتركستان، وإيجور، وقرغير، وقرتشاي، وبَلْقَر .. وغيرها)، كما كتبت به لغات الشعوب الفارسية من: (فرس، وأفغان، وطاجيك، وبلوش)، وكتبت به اللغات الأوردية، والماليزية، والأندونيسية، والتاميلية، والعديد من لغات الهند، والعديد من اللغات الأفريقية كالسواحلية، والهوسا، واليوربا وغيرها.



بل كتب المسلمون البُشناق من أبناء البوسنة والهرسك، والجبل الأسود لغتهم به، كما كُتبت الإسبانية بالحرف العربي وسميت (الخميادو)، وتوجد كتابات بُولندية وصينية بالحرف (القُرآني) العربي.

 

لقد ارتبط ازدهار الحرف العربي الشريف بالقرآن الكريم، فكُلّما ازداد المسلمون عزاً، سما هذه الحرف (القُرآني) إلى عنان السماء، وكأن هذا ا لحرف الشريف هو طلائع المسلمين لتعريب الأمم بعد دخولها الإسلام، لذا لا تعجب أن حُورب هذا الحرف الشريف حرباً شعواء لا تزال مُستعرة الأوار، وكأن الثمانية والعشرين حرفاً، وهم عدد أحرف لغة القرآن العظيم؛ ثمانية وعشرين جيشاً إسلامياً !.


انظر إلى خبر جاء في إحدى مجلات المنصِّرين التي تُسمى (عالم المسلمين) ، وتصدر في أمريكا، ففي (المجلد الأول، صفحة رقم: (218)، من العدد الصادر في الثاني من أبريل سنة 1911م؛ كتبت تقول: ( لقد قام المنصرون الألمان في شرقي أفريقيا باستبدال الحرف العربي الذي تُكتب به اللغة السواحلية إلى الحرف اللاتيني، وذلك كوسيلة لوقف الزحف الإسلامي، ووقف عملية التعريب المستمرة في هذه البلاد.

 

ويُعتبر هذا التغيير ضربة قاسية للإسلام في شرقي أفريقيا: وتضيف المجلة؛ فتقول: ( إن الموضوع مُثار الآن في ألبانيا، فألبانيا تعيش على حدود الشرق الإسلامي والغرب الأوروبي النصراني، والقضية المثارة هُناك على المستوى القومي: هي هل نكتب لغتنا الألبانية بالحرف العربي (القرآني) أم الحرف اللاتيني؟، والأتراك المسلمون بالطبع يؤيدون الحرف (القُرآني) (هذا قبل أن يغير أتاتورك –عليه من الله ما يستحق- الحرف القرآني في بلاده)، بينما الأذكياء من الألبانيين النصارى (وهم أقلية بالنسبة إلى عموم الشعب الألباني المسلم) يميلون للحرف اللاتيني كأداة تُقربهم من الثقافة الغربية، وقد أخبرنا مُراسلنا أن القضية لا تزال تتفاعل في ألبانيا حتى الآن ...)،  انتهى الخبر الذي كتبته هذه المجلة في سنة 1911م أي في أوائل القرن الماضي الذي شهد مرحلة سقوط دولة الخلافة الإسلامية، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والخبر لا يحتاج أي تعليق أو تفسير!.

 


 

 

ثم جاءت بعد ذلك عصور الضعف والانحلال التي ضعف فيها تمسك المسلمين بدينهم، فتمزقت وحدتهم، وضاعت هيبتهم، وذهب ريحهم، فطمع فيهم عدوهم، وتخاطفت دولهم جحافل جيوش الاستعمار (الاستخراب) الصليبي من الشرق والغرب، وفقدت الشعوب الإسلامية هُويتها وشخصيتها بعد أن طال التخريب والفساد والبدع والخرافات عقائد المسلمين وحياتهم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية،  وأصبحنا أمة بلا هُوية نُقلد كل وارد علينا من ثقافات ومبادئ، وأصبحنا تابعين مُقلدين بعد أن كُنا سادة مُسْتخلفين وقادة مُوجِهين، وصدق العلامة عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله؛ فالمغلوب دائماً مُولعٌ بتقليد الغالب!.

 


 

وتعثر حرفنا (القُرآني) الشريف مع تعثر علومنا و فنوننا ومعارفنا، ووجد العدو الفرصة سانحة لتمزيق هذه الأمة، وعلم أن أنكى ما يُحارب به المسلمون هو في قرآنهم، فشنوها حرباً ضروساً شعواء على الحرف القُرآني، وعلى لغة القُرآن المجيد؛ على اعتبار أن هذا الحرف العربي القُرآني هو أداة هذه اللغة وعمادها، وضربه والقضاء عليه في بلاد المسلمين، يعني القضاء على لغة القرآن والسنة والإسلام، وبالتالي القضاء على القرآن الكريم!.

 

 

لقد دخل هؤلاء المخربون على المسلمين بأسلوب ناعم خبيث حيث أشاعوا أن الحرف العربي (القُرآني) هو سبب التخلف الذي تعيش فيه البلاد الإسلامية، وأن اللحاق بركب التقدم يستدعي التخلي عن هذا الحرف القُرآني، وعن الكتابة بلغة القُرآن، واستبدالها بالحرف اللاتيني الذي تستعمله الدول الغربية المتقدمة، وأفهمونا أن سبب تخلفنا هو ذلك الحرف العربي (القرآني) الصعب!، وانخدع كثيرون بهذه الدعوى الخبيثة، فتركوا حرف قرآنهم المجيد، ليسيروا في ركب الحضارة المزعوم!.

 


 

 

 وأدارت هذه المرحلة الخطيرة التي شهدت أفول دولة الخلافة الإسلامية قيادات مصنوعة صناعة غربية صليبية صهيونية، تشربت قلوبها ونفوسها حقداً وعداءً للإسلام، فتفاعلت مع هذه الدعوات الخبيثة، واستجابت لهذا المكر الصليبي الحاقد، وفتحت بلاد المسلمين أمام الأفكار الشيوعية والعلمانية والقومية، وغيرها من الأفكار والفلسفات والمذاهب الغريبة الوافدة التي مزقت أمة الإسلام شيعاً وأحزاباً وجماعات، و صارت تموج بأفكار متناقضة، وآراء مُتعارضة، وتيارات مُتطاحنة.

 

 وعملت الصليبية الحاقدة والصهيونية الجاحدة بالتعاون مع وكلائها الخونة من طبقة العسكرتارية التي تمتلأ جهلاً وغروراً وحماقة في بلاد المسلمين على حمل الشعوب المسلمة في هذه البلاد المنكوبة بهؤلاء العملاء على هذه الأفكار رغَباً ورهًباً، وقاموا بتنحية (الحرف القُرآني)، وكتبوا لغاتهم بالحرف اللاتيني قاطعين –عن عمد- صلة هذه الشعوب المسلمة بتراثهم وتاريخهم وحضارتهم التي أشرقت في ظل الإسلام بعد أن كانت بدائية وحشية دموية يسود فيها الجهل وروح العداوة والفظاظة والانتقام، وتساقطت الدول الإسلامية دولة إثر دولة كما تتساقط الحصون، فإذا بإندونيسيا، وماليزيا، وتركيا تكتب لغاتها بالحرف اللاتيني، أما الدول الأفريقية المقهورة فقد فرض عليها فرضاً، شرقاً و غرباً، كما فرض الحرف الروسي (سيريليك) في أواسط آسيا على أحفاد البخاري ومسلم والترمذي والطبري والخوارزمي والبيروني وسيبويه، كما غلب الحرف (البنغالي) على شعوب البنغال التي كانت تستعمل الحرف العربي إبان الاستعمار البريطاني، ولما كانت باكستان الشرقية تكتب بالحرف (البنغالي)، والغربية تكتب بالحرف العربي كان القطيعة أسهل، وآخر من دخل النادي اللاتيني دولة في جامعة الدول العربية، هي الصومال، وهناك محاولات مستمرة يقوم بها بعض من نصّبوا أنفسهم متحدثين باسم إخواننا الأمازيغ أحفاد الفاتح العظيم طارق بن زياد رحمه الله، ورضي عنه، حُرّاس البوابة الغربية لأمة الإسلام، وأصحاب التاريخ المشرف في الدفاع عن الإسلام؛ وهؤلاء الأدعياء يُطالبون السلطات المحلية في بلادهم بكتابة اللغة الأمازيغية بالحرف اللاتيني، ومعظم هؤلاء أعضاء في حزب فرنسا المعادي للإسلام الذي زرعته في بلاد المغرب الإسلامي، لتمزيقها!.

 


 

و يا ليت هذه الدول التي تحولت إلى الحرف اللاتيني تقدّمت بعد أن غيرت حرف قرآنها الشريف كما زعموا، فهم لا يزالون في تخلفهم رغم استعمالهم للحرف اللاتيني ذي القوى السحرية في التقدم!، كما يزعم أعداء العربية والإسلام.

 

لقد رأيت بعيني أكواماً من أمهات الكتب المكتوبة بالحرف العربي (القُرآني) الشريف في إحدى الدول الإسلامية يأكلها الإهمال والعفن؛ لأنها لا تجد من يعرف فك طلاسمها التي استغلقت على الجيل الجديد بعد أن كتبها آباؤهم وأجدادهم ليورثوها لهم لهدايتهم، فورثوا طلاسم وأحاجي، وقطع السبيل بينهم وبين تراثهم، وهكذا نجح أعداء الإسلام في تغريب الملايين من المسلمين عن كتابهم الكريم، وذلك فقط بتغيير ثمانية وعشرين حرفاً.

 


 

أما الدول التي لم تقبل بتغيير هذا الحرف، وتمسكت به فقد دسُّوا عليها طُرقاً أخرى للتغريب عن عربية القرآن، وذلك بابتكار وسائل تُوصف بأنها حديثة لتعليم هذه اللغة العربية المزعجة التي تربطهم بقرآنهم، ولتبعدهم عن طرقهم التقليدية التي أثبتت جدواها وفاعليتها، وحافظت على فصاحتهم، وصانت لسانهم مئات السنين.

 

لقد فشلت هذه ا لطرق المستوردة والموصوفة بالحداثة في إنجاب أعلام كالأعلام الذين خرجتهم مدرسة القرآن عبر القرون، ونحن لا نكاد نذكر اسماً واحداً من أسماء هؤلاء الأعلام من مفكرين وأدباء وسياسيين ومؤرخين وأئمة وعلماء دين ورجال قضاء إلا ونجد أن حفظ القرآن الكريم كان له الأثر الطيّب الكبير في نضجهم وتميزهم وبروزهم، كنا نجد الأطفال يحفظون كتاب الله العزيز كاملاً بتجويده وهم في الثامنة والتاسعة من أعمارهم، أو الثانية عشر على أقصى تقدير، بينما نجد أن أطفال الطرق الحديثة في المدارس يجدون العنت والمشقة في المطالعة والقراءة والكتابة، ويبلغ الواحد منهم الرابعة عشرة من عمره وهو يتعثر لا يكاد يُبين، وهكذا تم العمل على إضعاف ومسخ وتشويه لغة القرآن العظيم، في نفوس أبناء المسلمين، وصات كأنها لغة بكم لا يُفصحون!.

 


 

 

هذا وللحرف العربي (القُرآني) مزايا عديدة؛ من أهمها:

 

* - الإيجاز الشديد، وذلك لقابليته للاتصال بعضه ببعض سواء أكان مكتوباً أو مطبوعاً.

* - تنوع الأشكال للحرف الواحد.

 

* -  قابليته للاستمداد والتمطيط.

 

* - هذا فضلاً على جماله، ورشاقة حروفه، وتباين أشكاله وتعددها مما يساعد الخطاط على اختيار شكل الحرف الذي يناسبه حسب المقام.

 

* -  ويمكن للقارئ الكريم أن يُلاحظ بنفسه مدى إيجاز الحرف العربي الشديد من الجملة المكتوبة بالحرف العربي وما يقابلها بالحرف اللاتيني وبالبنط نفسه، فانظر وقارن:

(وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم)

 

* - هذا الإيجاز هو إيجاز الحرف العربي كتابة أو طباعة، وهو غير إيجاز اللغة بلاغة، وغير إيجاز الشكل والإعراب، والعربية معروفة ببلاغتها في الإيجاز وجوامع الكلم. ذكر المستشرق (ريتر) H. Ritter أستاذ اللغات الشرقية في جامعة استنبول - وهو من المخضرمين الذين حاضروا قبل وبعد الحركة الكمالية - قال:

 

".. إن الطلبة قبل الانقلاب الأتاتوركي كانوا يكتبون ما أتلوا عليهم من محاضرات بسرعة فائقة؛ لأن الحرف العربي اختزالي بطبعه، أما اليوم فهم لا يفتؤون يطلبون إعادة العبارات مراراً، وهم معذورون فيما يطلبون؛ لأن الكتابة اللاتينية لا اختزال فيها". ثم أضاف قائلاً: "إن الكتابة العربية أسهل كتابات العالم وأوضحها، فمن العبث إجهاد النفس في ابتكار طريقة جديدة لتسهيل السهل وتوضيح الواضح". [مقتبس من محاضرة: (الخط العربي وتطوره)، للخطاط المصري سيد إبراهيم، بتاريخ: 29 ديسمبر 1977 م].

 


 

 

* -  أما قابليته للتمديد والاستطالة: فللحرف العربي من خصائص المطاطية ما يناسب كل مقام، ويتفق مع كل مسافة ومساحة، بحيث يمكن التحكم في كتابته حسب الأحوال، وهو في هذا يختلف عن حروف أخرى جامدة، وكأنها قُدّت من خشب تُكتب كاملة على كل حال، سواء اتصلت أو انفصلت، لا يتغير شكلها بتغير موقعها.

 

* - وأما تنوع أشكاله: فهي ميزة تفوق فيها على غيره، فلكل صورة من صور الحرف موقع واستعمال تدعو إليه الحاجة، اختزالية كانت أم جمالية عند الكتابة، وبهذا نجد أن ما اعتبره الآخرون نقيصة هو في الحقيقة ميزة.

* - تميزت الحروف العربية على غيرها من الحروف، بأن هناك حروفاً متشابهة الرسم، بحيث يمكن اختزال صور هذه الرموز إلى تسعة عشر حرفاً، أو رمزاً فقط بدلاً من ثمانية وعشرون حرفاً، بمعنى أني إذا علمت الطفل صورة الباء، فإنه يمكنه أن يكتب التاء والثاء بهذا الرمز الواحد نفسه بتغيير طفيف في عدد ومواقع النقاط، وهذا يتكرر عدة مرات في الأبجدية، مما يجعل عدد الرموز التي يتعين عليه أن يتعلمها في الحقيقة تسعة عشر رمزاً أساسياً، هي كل الأدوات التي يتعين عليه أن يتعلمها ليكتب ويقرأ هذه اللغة الفصيحة، وتنفتح له أبواب كنوزها وتراثها العريض، تسعة عشر رمزاً أو رسماً لأغنى وأفصح لغات العالم.

 


 

 

فهل هناك أيسر من ذلك! لعمري كيف تقدم اليابانيون، وحروفهم أضعف من الحروف العربية، وما رأي دهاقنة الاستشراق والتنصير في الحرف الياباني؟ ولماذا لم يشنوا عليه حربهم الشعواء؟ لعله لعدم نزول (قرآن كريم) باليابانية، وإلا فالويل للحرف الياباني حينئذ منهم، فحرب الحروف مقصود بها حرب القرآن الكريم.

* - الحرف العربي هو حرف يقترب من الطبيعة في انسيابيته ورشاقة حروفه وفي تكويناته اللانهائية، وفي ليونته وطواعيته للكتابة الجميلة، ليس فقط للكتابة الموجزة، بل والفائقة الجمال أيضاً.

 

 * - الراحة النفسية التي يجدها المتأمل للوحة خطية بحرفنا العربي (القُرآني) الشريف، تُشبه الراحة التي يشعر بها الإنسان عندما يتأمل الطبيعة الجميلة من حوله.

 

والنماذج المنشورة تبين بوضوح مدى طواعية واختزال وجمال هذا الحرف، حتى إنه لشدة وضوحه ظهر فن يحجب شيئاً من هذا الجمال الواضح الصارخ ليزداد جاذبية كما تفعل الغلالة الرقيقة من سحاب يمر أمام البدر في ليلة مقمرة فيزداد البدر بهاء، فنشأ فن الطغراء أو فن الصراحة والغموض، وهو تجريد تخصص فيه مبدعون، تركوا آثاراً نادرة تزدان بها القصور والمتاحف والمساجد، وليس معنى هذا أن الحرف العربي (القرآني) أنكر جمال الشكل الهندسي وروعته، والتي يمكن أن نراه في بلورات الجليد مثلاً وتكويناتها البديعة، تنوع الحرف وتعددت الخطوط في رحلة تطوره وتقدمه، وكثرت أنواع الخطوط على مراحل التاريخ فاستوعبت اللين منه واليابس وأبدعت.

 


 


فكان الكوفي بأنواعه وزخارفه تعبيراً عن الحس الجمالي للشكل الهندسي، وتنوع الكوفي من بسيط إلى مورق ومزهر ومضفور وهندسي، وتميز الأخير بأنواع كثيرة تخص كل مدينة فهناك القيرواني، والقرطبي، والشامي، والموصلي، والنيسابوري، كما تميزت الدول الإسلامية على مر العصور بقسمات خاصة لخطها الكوفي الهندسي كالأيوبي، والمملوكي التركي، والجركسي إلى غير ذلك.

 

وكان النَّسخي، والثلثي، والفارسي، والرقعي، والديواني الجلي ولكل أنواع، وهناك أقلام منها: قلم العقد المنظوم، وقلم المنثور، وقلم المقترن، وقلم التعليق، وقلم التوقيع، وقلم جليل الثلث، وقلم المصاحف، وقلم المسلسل، وقلم الغبار، وقلم النسخ الفصاح، وقلم جليل المحقق، وقلم ا لريحان، وقلم الرقاع، وقلم الريشاني، وقلم اللؤلؤي، وقلم الحواشي، وقلم الأشعار.. الخ من أنواع الخطوط والأقلام.

وما ذكرت بعض أنواع الخطوط إلا للتدليل على مدى خدمة المسلمين لهذا الحرف (القُرآني) الشريف على مدار السنين، فتركوا لنا تراثاً ضخماً أثرى الحرف العربي شكلاً وجمالاً وتحسيناً وتنويعاً لخدمة الأغراض والأذواق كافة حتى وصلوا به إلى ذروة شامخة.

 

فهل نترك هذا الحرف بعد كل هذا إلى حرف غريب عنا وعن لغتنا وديننا؟ وكيف نكتب قرآننا؟ هل نخذل هذا الحرف الشريف بالإهمال وترك العابثين والمغرضين لتشويهه، وابتكار كل رديء من الخطوط وتصديره إلى مطابعنا جاهزاً مُيسراً لاستعماله دون اعتراض منا.

 

إنها لجريمة نكراء في حق الأجداد والآباء، وفي حق لغتنا، وتُراثنا، وثقافتنا، وحضارتنا، وديننا العظيم، وقرآننا الكريم.

قال المأمون: (لو فاخرتنا الملوك الأعاجم بأمثاله، لفاخرناها بما لنا من أنواع الخط لشرفه، فإن يُقرأ بكل مكان، ويُترجم بكل لسان، ويُوجد مع كل زمان، إنه أفضل من لفظ اللسان؛ لأن لفظ اللسان لا يتجاوز الأذان، ولا يعمر الناس إلا بالبيان، فلذلك وصفه الله عز وجل في المكان الرفيع، ونوه بذكره في المنصب الشريف؛ فقال تعالى: (ن ۚوَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [سورة القلم: 1].

 


 


ورغم محاولات التدخل الغربي لإفساده ذوقاً، وتغيير أسسه حسداً منهم وكمداً على ما أفاء الله على هذه الأمة من نور القرآن العظيم الذي يُكتب بهذا الحرف الشريف؛ فإن الخط العربي ظل وسيظل إن شاء الله في تقدم، ولعل عدم وجود فن أجنبي يُضاهي فن الخط العربي، قلل من المؤثرات الغربية عنه، فبقي صافياً رقراقاً مع نبع إسلامي متين.

 

وختاماً : فإني أناشد الدول الإسلامية والعربية التي حرمت نفسها -إمّا مختارة أو مكرهة- من نعمة الحرف العربي الشريف أن تعود إلى حرف قرأنها الكريم، فتحيي تراثها، وتُجمل لغتها، وتعلم أبناءها حرف قرآنها.

وأناشد الجامعات والمدارس والمعاهد في دار الإسلام أن تهتم بتعليم هذا الحرف القرآني كاهتمامها بتعليم التجويد والتحفيظ وكاهتمامها بتعليم آداب العربية وعلومها، فالحرف العربي (القُرآني) أداة اللغة، واللغة وعاء المعرفة، والعربية لغة القرآن الكريم.

 

كما أناشد رابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التربية والثقافة والعلوم، ومركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية والعربية (إرسيكا) أن ترفع لواء الحرف العربي الشريف، فترفع بذلك سبب مجدها وعزها، وأن تُعيد إلى شعوبها ما تركت من خير (لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) [النحل :103].

 

بقلم: العالم الجليل، الأستاذ الدكتور حسن المعايرجي (رحمه الله)



مقالات ذات صلة