تفاصيل المقال

المصحف الشريف .. من الكتابة على جريد النّخل إلى فن التذهيب - أ. د حسن عيسى عبد الظاهر  (رحمه الله)

المصحف الشريف .. من الكتابة على جريد النّخل إلى فن التذهيب - أ. د حسن عيسى عبد الظاهر (رحمه الله)

ليس في يد البشر كتاب أكمل ولا أهدى من القرآن الكريم .. وليس هناك من كتاب نال من العناية والاهتمام ما ناله هذا الكتاب الحكيم ..

بل ليس هناك كتاب قُدّر له من التوثيق، والحفظ والخلود إلاَّ القُرآن العظيم، وصدق الله قائله ومُنزِّله: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [سورة القيامة: 17]. أي قراءته، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [سورة الحجر: 9]، وقد قيَّض الله له من الحفظ ما لم يُقيَّض لغيره من كتاب ضماناً لخلوده، وهيمنته، قيّضَ له الحفظ في (الصُّدور) فكم من الملايين عبر الأجيال جمعته وحفظته وما زالت، وناهيك بأربعة عشر قرناً يتعبد المسلمون فيها إلى ربهم بحفظه فُرادى وجماعات وأمَماً، ونهضت لذلك مدارس، وعلوم شتى، لا يخلو منها جيل ..

وقيَّض له الحفظ في (السُّطور) فكم من ملايين الصفحات سطرت به في الجهد البالغ في حفظه وجمال تسطيره ما بين مخطوط ومطبوع، ثم كان الجمع الصوتي مُسجّلاً، مُجوّداً، ومُرتّلاً، وبحفظ الله له لم يُصبه ما أصاب غيره من الكتب الماضية والحاضرة من التحريف في التبديل والضياع .. 


 

 

هذا القُرآن ..

 

من الحق الذي لا يُماري فيه إلاَّ مُبطل أنَّ هذا القُرآن جاء من عند الله مُنزلاً على نبيه الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم؛ (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) [سورة الشعراء]، وقد سمّاه اللهُ قُرآناً، وكتاباً، وكلاماً، وفُرقاناً، وذكراً، وقولاً ..

أمّا تسميته بالمصحف – ومعناه: الجامع للصحف المكتوبة بين الّدَّفتين- فهي تسمية مُتأخرة، جاءت بعد جمع القُرآن، وكتابته، وكانت من وضع النّاس ..

والقُرآن يحتوي على أربع عشرة ومائه سورة مختلفة الأطوال تحوي أكثر من مائتين وستة آلاف آية تُسطر كل آية منها –في المتوسط- في سطر أو أكثر، ونصه المحفوظ والمسطور هو، هو من يوم أنْ أنزله الله وإلى أن تقوم الساعة، وكما أملاه الرسول صلى الله عليه وسلم لكتبة الوحي ..

أما شكله الخارجي في كتابته وطباعته –فقد طرأ على هذا الشكل تطور كثير انتهى به إلى ما هو بين أيدينا اليوم، فهو في (طبعته) العادية يقع في (مجلد واحد)، ويتكون من حوالي خمسمائة، صفحة تكثر فيها علامات التشكيل والنَّقْط، والعلامات الصوتية، والإملائية، والوقف لإرشاد القارئ لكيفية النطق والقراءة والوقف، ... فكيف بدأ ذلك، وكيف تطور؟ ..

مما هو معلوم أن القرآن الكريم نزل أجزاء متفرقة مُتباينة في أطوالها من سورة كاملة إلى مجموعة من الآيات، إلى آية واحدة، بل إلى جُزء آية ..

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلو كل جزء ينزل عليه، ويُعلمه للسامعين ليصل عن طريقهم إلى من لم يسمعه من فم الرسول صلى الله عليه وسلم مُباشرة ..

وكذلك كان كلَّما جاءه الوحي بالقُرآن، وتلاه على الحاضرين أملاه من فوره على كتبة الوحي ليدونوه على ما اعتادوا التدوين فيه مما هو في مُتناول أيديهم؛ روى البراء رضي الله عنه، قال: لما نزل قول الله تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [النساء: 95]، قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -  (( ادْع لي زَيْدا، وَلْيَجِيء بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ والْكَتِفِ - أَوْ الْكَتِفِ والدَّوَاةِ ))، ثمَّ قَالَ: ((اكْتبْ: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ ...) [النساء: 95]. (صحيح البخاري؛ برقم: (2831).

أي ان الرسول صلى الله عليه وسلم كان يُملي على كاتبه لساعته، وأنّ الكتبة كانوا يكتبون بإملائه، وأنّ هذا المكتوب كانوا يتناقلونه ..

 



 

كتبة الوحي ..

 

ويذكر العلماء الثقات أنّ عدد كتبة الوحي بلغ (تسعة وعشرين) كاتباً؛ أشهرهم: الخلفاء الراشدون الأربعة، ثم جمعٌ من أجلاء الصحابة، منهم: معاوية، والزبير، وسعيد بن العاص، وعمرو بن العاص، وأُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وكان مُعاوية، وزيداً أكثر ارتباطاً بهذا العمل الجليل ..

ولم يتوان المسلمون منذ البداية –بل وخلال صنوف الاضطهاد التي تعرضوا لها – عن تسطير وتدوين الآيات القُرآنية التي تتنزل، ومنهم من كان يُدونها في مخطوطات شخصية، بل كان إسلام عُمر –رضي الله عنه- راجعاً إلى قراءته بعض آيات من أول سورة طه وجدها مكتوبة عند أخته فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها ..

ومن الواضح أنّ هذه المخطوطات على هيئتها الأولى البدائية لم تكن –في شكلها الخارجي –تُمثل مجموعة متجانسة ومُنظمة، ومُرقّمة، وإنما كانت مُتفرقة، ولم تأخذ شكلها النهائي إلا قُرب نهاية حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ..

ولم يمض عامٌ واحدٌ –بعد أن قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم –إلاّ وبدت الحاجة مُلحة لجمع هذه المكتوبات على تنوع أشكالها من ورق، وحجر، وعظام .. إلخ في مجموعة مُدونة سهلة الاستعمال، وقد عهد الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه بهذه المهمة الجليلة إلى الصحابي (زيد بن ثابت رضي الله عنه) قائلاً له: ((إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ ، وَلاَ نَتَّهِمُكَ، كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَتَتَبَّعِ القُرْآنَ فَاجْمَعْه ...)). [صحيح البخاري؛ برقم: ( 6768)].

وقد وُضعت قاعدة لهذا العمل، تقضي: (بألاّ يُؤخذ بأي مخطوطٍ إلاّ بعد أن يشهد شخصان أنّه مكتوبٌ بإملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاته، وليس من ذاكرة الكاتب، وأنّه جُزء من التنزيل في صورته النهائية، وكان أبو بكر رضي الله عنه، يقول لعمر ولزيد (رضي الله عنهم أجمعين): ((اقْعُدَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ، فَمَنْ جَاءَكُمَا بِشَاهِدَيْنِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَاكْتُبَاهُ)) [أخرجه ابن أبي داوود في "المصاحف"، برقم: (20)]، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: [(ج8/ص631) عند شرحه للحديث رقم: (4701): ورجاله ثقات، مع انقطاعه].

 


 

 

ويروي الإمام البخاري رحمه الله أنّ (زيد بن ثابت رضي الله عنه) حين كلّفه (أبو بكر رضي الله عنه) بجمع القُرآن، مضى يجمعه من العُسُب، واللّخاف، وصدور الرجال ..

وبعد جمع القُرآن وكتابته هكذا بكل هذه الاحتياطات، احتفظ به أبو بكر طول خلافته، ثمّ عهد به قبل موته إلى ( عُمر رضي الله عنه) المرشّح للخلافة من بعده، ثُمَّ قام (عُمر رضي الله عنه) بتسليمه إلى ابنته (حفصة) أم المؤمنين رضي الله عنها عند موته ..

ويُمكن أن نُشَبِّه هذا المصحف المجموع هكذا في شكله الخارجي بملف يجمعُ صُحفاً مرتبة! لكن فُرصة نشره وتعميمه في الأمة لم تُتَح إلا في خلافة (عُثمان رضي اله عنه)، بعد معارك أرمينية وأذربيجان، واشتداد الحاجة إلى نشره في أرجاء الأمة كلها ..

وقد نهض الخليفة الثالث (عثمان رضي لله عنه) بذلك، فشّكّل (لجنة) من أربعة كتبتة؛ منهم: زيد بن ثابت –نفسه- وهو من الأنصار، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام –من المهاجرين – وكلّفهم بنسخ عدد من هذا المصحف يُعادل عدد الأمصار الرئيسية في الدولة الإسلامية .. وقال لهم: (ما اختلفتم فيه أنتم وزيد، فاكتبوه بلسان قُريش، فإنه نزل بلسانهم)، وكان يسأل: من أكْتَب النّاس؟ فيقول النّاس: كاتِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت، فيقول عثمان: فأيّ الناس أعرب؟ فيقولون: سعيد بن العاص –وكان سعيد أشبههم لهجة برسول الله صلى الله عليه وسلم- فيقول عثمان: فليمُل (سعيد)، وليكتب (زيد) رضي الله عنهم ؛ ثُمّ جُلدت هذه النسخ، ووزعت على الأمصار باعتبارها نماذج لا بديل لها وحبس عنده نسخة بالمدينة، وأصبح هذا النموذج هو وحده المتداول في العالم الإسلامي حتى اليوم، ومن أجل هذا وغيره سُمّي (المصحفُ الإمام): وهو الذي بَيْن أيدينا اليوم أقوم ما يكون ضبطاً وأصَحُّ ما يكونُ شكْلاً: يقول (مُوبر) في كتابه "حياة مُحمد صلى الله عليه وسلم": "إنّ المصحف الذي جمعه عثمان رضي الله عنه قد تواتر انتقاله من يدِ لِيَد حتى وصل إلينا دون تحريف، ولقد حُفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يُذكر، بل نستطيع أن نقول إنّه لم يطرأ عليه أيّ تغيير على الإطلاق في النُّسخ التي لا حصر لها والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة، فلم يُوجد إلاّ قُرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي لنفس النّص المنَزَّل الموجود معنا والذي يرجع إلى الخليفة عُثمان ..".

 

 



 

كيف كانت الكتابة للمصحف؟

 

حين قُبض الرسول صلى الله عليه وسلم كان القُرآن كُلّه مكتوباً على:

*  العُسُب –بضم العين والسين – جمع عسيب، وهو السعفة، أو جريدة النخل إذا يبست ونُزع خوصها ..

* الكرانيف - جمع كرنافة -؛ وهي أصل السعفة الغليظ الملتزق بجذع النخلة.

* القضم – وهو الجلد الأبيض الذي يُكتب فيه ..

*  الأديم – وهو الجلد الأحمر أو المدبوغ.

*  اللخاف – بكسر اللام ثم خاء معجمة خفيفة وآخره فاء - وهي الحجارة البيض الرقاق.

* الأكتاف – وهي عظام أكتاف الإبل والغنم وأضلاعها ..

يروي الإمام الزهري أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قُبض (والقُرآن في العُسُب، والقضم، والكرانيف).

ولقد كانت الكتابة بلغة قُريش، ولم تكن الأمة العربية أمة عريقة في الكتابة، بل لم يكن الخط العربي حينها وإلى أيام (عبد الملك بن مروان) يعرف النَّقْ-ط المميز للحروف في صورته الأخيرة، كما لم يكن يُعرف شكل الكلمات! ..

فما كانت الكتابة العربية على حالها اليوم من التجويد، والكمال إملاءً ورسماً ..    

ومن حديث ذلك: أنّ العرب كانوا قُبيل الإسلام يكتبون بالخط (الحِيري) نسبة إلى (الحِيرة)، ثُمّ سُمّي هذا الخط بعد الإسلام بالخط (الكوفي)؛ وهذا الخط (الكوفي) فرعٌ – كما يُقال – من الخط (السُّرياني)، وعنهم انتقل إلى العرب قبل الإسلام، ثُمّ كان منه هذا الخط (الكوفي) الذي كانوا يستخدمونه لكتابة القُرآن الكريم؛ غير أنّ الخط (الكوفي) نفسه كان أشكالاً، واستمر ذلك إلى مطلع القرن الخامس تقريباً ..

ثُمّ ظهر خط (الثُّلث) وعاش من القرن الخامس إلى ما يقرب من القرن التاسع؛ إلى أن ظهر القلم (النّسخ) الذي هو أساس الخط العربي إلى اليوم ..

ولقد كُتب القرآن الكريم بالخط (الكوفي) أيام الخلفاء الراشدين، ثمّ أيام بني أمية؛ وفي أيام بني أمية صار هذا الخط الكوفي إلى أقلام أربعة ..

ويُعزى هذا التشكل في الأقلام إلى كاتب اسمه (قُطبة) وكان كاتب أهل زمانه، وكان يكتب لبني أمية المصاحف؛ وكانت المصاحف في أول الأمر خالية من النّقْط والشّكْل، ومع بداية العصر الأموي دخلت الكتابة العربية مرحلة (الشّكْل والإعجام – النّقْط -)، فأمّا الشّكل فقد بدأ نَقْطاً على أواخر الكلمات، ولم يلبث أن امتد إلى بعض حُروفها ثُمّ تطور إلى الحركات التي نعرفها اليوم ..

 


 

وأما إعجام الحروف أو نَقْطها للتفريق بين المتشابه منها، فقد حدث في عهد (بني أمية)؛ لأن العرب كانت في أوّل عهدها بالكتابة لا تعرف التنقيط كما يظهر من النقوش العربية القديمة؛ وفي عهد الدولة العباسية بلغت الأقلام العربية اثني عشر قلماً؛ ثُمّ زادت الخطوط على عشرين شكلاً، ولكنها كلها من (الكوفي)، حتى كان أوائل القرن الرابع الهجري؛ وظهر (ابن مُقلة) فنقل الخط من صورة القلم (الكوفي) إلى صورة القلم (النّسْخي) وجعله على قاعدة جميلة كانت أساساً لكتابة المصاحف ..

يقول ابن إسحاق: أول من كتب المصاحف في الصّدر الأوّل، ويُوصف بحسن الخط (خالد بن أبي الهياج) ورأيتُ مُصحفاً بخطّه؛ و ( مالك بن دينار)، ويُكنى أبا يحي، وكان يكتب المصاحف بأجر، ثُمّ ذكر (ابن إسحاق) نفراً من كتبة المصاحف بالخط (الكوفي – والمحقّق المشتق)، ومنها قلم (إسياقت وشكسته) ..

وقد ظلت كتابة المصحف على هذا الحال والتطور إلى أن ظهرت المطابع في منتصف القرن الخامس عشر؛ وكان أوّل مُصحف طُبع بالخط العربي في مدينة (همبورج) بألمانيا، ثُمّ في (البندقية) في القرن السادس عشر، ثم شاعت الطباعة، وشاع طبع المصحف بها حتى وصل إلى ما وصل إليه في يومنا هذا ..

 


 

التجليد في المصاحف ..

 

ينقل الإمام السيوطي في (الاتقان): " أنّ القُرآن الكريم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مُفرّقاً في الرّقاع، والأكتاف، والعُسب، وأن الصديق أبا بكر رضي الله عنه أمر بنسخه من مكان إلى مكان مُجتمعاً – أي: أمر بنقله ونَسْخه من هذه الأشياء إلى صُحف تُشكل فيما بينها صورة (الملف) أو (الدفاتر) أو (الكراريس) أو (المصاحف)؛ ويُمكن أن يُقال: إنه أوّل من جمع القرآن بين لوحين؛ وبذلك يكون المصحف هو أول مخطوط عربي جُلّد؛ أي وُضعت أوراقه بين لوحين ليس غير ..

ثًمّ كان التجليد – في صورته الأولى – عبارة عن وضع المخطوط بين لوحين من الخشب مثقوبين من مكانين مُتباعدين من ناحية القاعدة، ويمر بكُل ثُقب منها خيط رفيع من ليف النّخيل يبدأ بأحد اللوحتين ثُمّ تحرز به صُحف المخطوط حتى ينفذ إلى اللوح الآخر من الناحية المقابلة ويُعْقد ..

وما زال كثير من المخطوطات محفوظاً هكذا؛ بل ظلّ الخشب هو المادة المفضلة في تجليد المصاحف من الحجم الكبير خلال القرون الأولى للإسلام؛ وحتى منتصف القرن الثاني الهجري لم يكن لدى العرب كتاب يُمكن أن يُجلّد غير المصحف الشريف ..

ثُمّ زاد أهل مصر على (التغليف) بالخشب زخارف فنية وطعموها بالعاج لتزيين أغلفة المصاحف من الحجم الكبير؛ ثُمّ اصطنعوا طريقة تغطية ألواح الخشب بالجلد وزخرفة هذا الكساء الجلدي بألوان مختلفة من الزخارف العربية ..

هذا عن الأحجام الكبيرة، أما المتوسطة والصغيرة فقد استعاضوا في تجليدها عن الخشب بورق (البَردي)، فكانوا يصنعون من لُبابه ورقاً مُقوّى يستخدمونه في تغليف المصاحف، ثُمّ لم يلبث الورق أن انتشر، وحلّ محل (البردي) في التجليد ..

ويذكر (المقدسي) أنّ أمير (عدن) بعث إليه مُصحفاً بجلده له، وأنّ أهل اليمن كان يُعجبهم التجليد الحسن، ويبذلون فيه الأجرة الوافية، وكذلك كان لأهل الشام طريقتهم في التجليد ..

وقد استعمل في القرن الرابع الهجري ما يُعرف باللسان وهو امتداد في الجلدة اليسرى يُثْنى بحيث يُغطّى أطراف الأوراق ويقيها من التمزق، وما زال المجلدون العرب يتفننون ويبتكرون حتى وصلوا بصناعة التجليد إلى درجة عالية من الأصالة الفنية صَاحَبَتْها وانتقلت معها إلى أوروبا، وكان المصحف هو المجال الأول والأكبر لبراعة  هذا الفن، وكان المجلدون يُثابُون على اتقانهم بإجزال العطاء لهم حتى بلغت تكاليف تجليد المصاحف دينارين ..

 



 

الزخارف القُرآنية ..

 

لم تقتصر الزخرفة على الغلاف الخارجي لجلدة الكتاب، ولكنها امتدت إلى باطن الغلاف، ويبدو ذلك واضحاً في المصاحف الكريمة والربعات الشريفة؛ ويُوجد بمكتبة (البرتينا – بفيينا عاصمة النمسا) –جلدتان من جلود المصاحف لا تُجاوزان القرن الرابع الهجري، وهما غنيّتان بالزخارف النباتية والهندسية الدقيقة. على أنّ العرب قد وصلوا في ذلك التاريخ إلى درجة اتقان الصنع، كما وصل إلينا من النصف الثاني من السابع عشر غلاف مُصحف معروض في (متحف الفن الإسلامي) في استانبول، نُسخ في سنة  (1027هـ/1665م) ، هذا بالإضافة إلى جُهد المصريين في هذا المجال، والذي أشرنا إليه آنفاً ..

 


 


 

التذهيب ..

 

تأتي وظيفة (المذَهِّب؛ وهو الذي يقوم بتذهيب الغلاف المجلد) مُكمّلة لوظيفة (الخطّاط)، وقد عَرف العرب (فن التذهيب)، واستعمله الملوك والأمراء في مُراسلاتهم وكُتبهم منذ القرن الثالث الهجري، وقد كان المصحف الشريف هو الكتاب الوحيد الذي ارتبط به أولاً (فن التذهيب) منذ نشأته عند العرب، وذلك أنّ تعظيم القُرآن كان يبعث كثيرين من الفنانين على العناية بتذهيب المصاحف، وكان لتذهيبها صلة وثيقة بكتابتها بالخط الجميل. غير أنّه لم يقبل المسلمون على كتابة القُرآن الكريم بمداد الذّهب، نظراً لما في ذلك من الإسراف والبُعد عن البساطة والتقشف، ولكن هذا التحرج لم يمنع بعض الخطاطين من نسخ بعض المصاحف بماء الذهب، وخاصة في رسم فواصل السُّور، وفواصل الآيات، وفي بعض الزخارف في هوامش بعض صفحات المصحف؛ ولقد ظلّ ارتباط (التذهيب) بالمصاحف قائماً طوال القرون الأولى للإسلام، وقد تجلت براعة المذهبين في زخرفة الصفحتين الأولى والثانية من المصحف الشّريف، وكذلك في الصفحة أو الصفحتين الأخيرتين منه، إذ استخدم ماء الذهب مع الألوان المختلفة لا سيما اللون الأزرق الفيروزي بمهارة تامّة؛ وتُعتبر تلك الصفحات التي في مقدمة المصحف وفي الصفحات الأخيرة منه لوحات فنيّة يتوفّر فها كل ما يجب أن يتوفر في أي عمل فني رائع من زخرفة، وألوان متناسقة حسب الأشكال ، وانسجام بين الألوان، كما بلغت الرسوم الهندسية المذهبة في المصاحف درجة عالية من الاتقان ..


 

ولقد عني العثمانيون -رحمهم الله-  عناية فائقة بفن (التذهيب)، وممن اشتهروا في هذا العهد (حسن شلبي الأحدب) في القرن السابع عشر الميلادي، ويُعتبر من مشاهير المذهبين، وقد أسهم في تذهيب معظم ما كتبه الخطاط المشهور (حافظ عثمان) من مصاحف، وكان يُوقع بعبارة (ذهّبَهُ الفقير حسن). وهذا ويُوجد بمتحف (المترو بوليتان) نسخة جميلة من القُرآن الكريم ترجع إلى القرن الثالث عشر الهجري أو أوائل الرابع عشر، وقد كُتبت بماء الذهب، وبها (علامات الوقف) من اللون الأحمر والأزرق، وتُعتبر بعض الصفحات نماذج زخرفية رائعة جمعت بين خط (النّسخ) وزخارف التوريق باللونين الذهبي والأزرق؛ كما يحتفظ متحف (الفنون الجميلة – بمدينة (بوسطن الأمريكية) بجزء من مصحف كتبه (عبد الله بن أحمد) في شوال سنة 738هـ/إبريل سنة 1338م، وتتجلى في صفحات هذا المصحف قُدرة المذَهِّبين الإيرانيين الفائقة في التوفيق بين الكتابة والزخرفة وإخراجهما في شكل زخرفي مُوحد ..

هذا وقد روي عن أبي الدرداء وأبي هُريرة وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين كراهية "كتابة المصاحف" بماء الذّهب والفضة، ويُروى أيضاً عن غيرهم الترخيص في "تحلية المصاحف" وإن لم يُحدد نوع هذه الحلية؛ هذا وبالله التوفيق، وصلى الله وسلّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين؛؛؛

 

* - بقلم: فضيلة الشيخ أ. د حسن عيسى عبد الظاهر (رحمه الله)

 



مقالات ذات صلة