تفاصيل المقال

دراسات في الترجمات القُرآنية (1)  مُقدّمات مُهمّة  بقلم:  أ. د حسن المعايرجي

دراسات في الترجمات القُرآنية (1) مُقدّمات مُهمّة بقلم: أ. د حسن المعايرجي

(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة : 122)

انصاع المسلمون في كل أنحاء الأرض لهذا النداء الرباني، فأرسلوا نفراً من أبنائهم منذ مئات السنين إلى الجزيرة العربية ثم إلى معاهد العلم والجامعات الإسلامية، والمراكز العلمية في المساجد الشهيرة والعواصم الإسلامية الزاخرة بالعلماء والمكتبات، لارتشاف العلوم الإسلامية واللغة العربية من منابعها والعودة بعد ذلك إلى بلادهم ليُفقهوا قومهم في الدين.

وبهذه الوسيلة الطبيعية أمكن اختراق حواجز اللغة، وتوصيل المعاني الإسلامية القرآنية صافية رقراقة إلى شعوب دخل أبناؤها الإسلام وحسن إسلامهم، بالرغم من اختلاف ألسنتهم وبُعد لغاتهم عن اللغة العربية.

فمن اليابان وكوريا والصين شرقاً إلى السنغال ونيجيريا غرباً يجد الإنسان عشرات بل مئات من اللغات التي يستعملها المسلمون غير الناطقين بالعربية، ومع ذلك فقد وصل الإسلام إليهم وأُحسن تبليغه، وانتشر بتعاليمه وشرائعه السمحة كأحسن ما يكون التبليغ، وإن أردت أن ترى ذلك رأي العين فعليك بمراقبة هذه الشعوب عند الحج، لترى كيف أن حواجز اللغة لم تكن عائقاً لوصول الإيمان والإسلام إليهم.

 فإن جهود ذلك النفر الذي فقه في الدين، وعاد لينذر قومه كانت سبباً مباشراً في نشر الإسلام، هذا علاوة على آثار الهجرات العربية والتزاوج والتجارة في هذا الانتشار.

 ولاتزال كثير من البلدان الأفريقية والآسيوية تُرسل بعثات من أبنائها لمختلف بلدان العالم الإسلامي لتلقي العلوم العربية والإسلامية، ليعودوا لأقوامهم دعاة مُبلغين، فهذا هو السبيل القويم الذي أمرنا به رب العالمين.

 وحتى بعد اختراع الطباعة وانتشار الكتاب الإسلامي، فإن نسبة كبيرة من شعوبنا الإسلامية لاتزال تُعاني من الفقر والأمية فلا تستطيع قراءة الكتاب عند شرائه ، وتحتاج إلى التبليغ شفوياً من علماء درسوا العربية وعلوم الدين من أبنائها ليشرحوا لهم ويُفقهوهم في الدين، ويُنذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بألسنتهم.

وما أروقة الأزهر المختلفة إلا جامعة أمم إسلامية، فنسمع عن رواق السودان، والجبرت، والجاوة، والتكارنة، والأتراك، ونشتاق لسماع أسماء لأروقة الزولو، والبانتو، والماندي، وكوريا، واليابان، والصين، وتركستان.

 

وهناك ضرورة لدراسة علمية مُتأنية للشعوب الإسلامية ولغاتها المختلفة الواجب تمثيلها في البعثات الدراسية إلى الجامعات الإسلامية المختلفة في البلدان العربية، لتتناسب في إعدادها مع كثافة شعوبها وحاجتها من المبلغين.

كما تحتاج إلى التنسيق بين هذه الجامعات لاستقبال هذا النفر من كل شعب مكونة ما يمكن أن يُصبح تخصصاً لكل جامعة في التعامل مع مجموعة من الشعوب الإسلامية، فجامعة تتخصص في تعليم أبناء شرق ووسط وغرب أفريقيا مثلاً، وأخرى تتخصص في تعليم الشعوب التركية كالأوزبك والتركمان والآذار والتركستان والتتار وغيرها.

 وفي هذا التخصص يُراعى قرب وبعد الجامعات عن أوطان الدارسين علاوة على زيادة التعرف على عادات هذه الشعوب واحتياجاتها، مما يزيد من فعالية أثر هذه الجامعات حتى تُصبح مكاناً لإشعاع اللغة العربية والدين الإسلامي، بل لتُصبح أيضاً مركزاً لتأليف ونشر الكتاب الإسلامي بلغات هذه الشعوب المختلفة، وبذا يسير التبليغ في خطين متوازيين: خط تعليم الدعاة العربية وعلوم الدين، وخط تأليف وتوفير الكتاب الإسلامي المترجم بلغات هؤلاء الدارسين، وعلى رأس هذه الكُتب تفسير كتاب رب العالمين للشعوب الإسلامية بأيدٍ أمينة مؤهلة للتفسير. وفي جميع مراحل تاريخ انتشار الإسلام بين الشعوب المختلفة، لم نسمع أن الحاجة قد قامت لترجمة القرآن الكريم. ولكن كانت هناك حاجة لتفسيره باللغات المختلفة.

وقد وصلتنا تفاسير عديدة باللغات الفارسية والتركية والأردية والمالاوية والإندونيسية والتتارية والأوزبكية وغيرها من لغات المسلمين. كما حفظ المسلمون في أفريقيا تفاسير علمائهم عن ظهر قلب باللغات الأفريقية [1] لعدم القدرة على الطباعة وانتشار الأُمّيَّة.

وتَجمَّع من هذه التفاسير الإسلامية تُراث هائل في شتى اللغات الإسلامية، طُبع بعضها، وبقي بعضها في صورة مخطوطة تحتاج إلى طباعة ونشر، وأخرى شفوية كما ذكرنا.

ومع ذلك فقد تعرض كتاب الله الكريم - ولايزال - لهجمة شرسة من غير المسلمين بترجمته إلى اللغات المختلفة، بدءًا من اللغة اللاتينية - لغة الكنيسة- إلى 23 لغة أوروبية، مُشوهين بذلك معانيه السامية، ظانّين أن ما يصلح لكتبهم بترجمتها، يصلح لترجمة كتاب رب العالمين.

 وكما نســبوا كتبهم إلى بشر، فقالوا: إنجيل يُوحنا، وإنجيل متى، أو لوقا، أو مُرقص قالوا: قرآن محمد، وظنّ القوم أنّ سُهولة ترجمة كُتب كتبها البشر تنطبق على كتاب رب العالمين، غير عالمين أن هذا النّص الإلهي يختلف عن كتابات البشر، وأنّ رب العالمين قد تحدّى الإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله سواء بالعربية أو غيرها، وسيظل هذا التحدي الإلهي قائماً إلى يوم يبعثون.

ولا أدل على إخفاق هؤلاء المحرفين من ذلك الكم الهائل من الترجمات لكتاب الله الكريم التي تطبع حتى الآن في كل اللغات دون أن تشفي لهم ترجماتهم غليلاً.

وكُلّما ترجموا ترجمة في لغة من اللغات سرعان ما تظهر غيرها، حتى بلغت هذه الترجمات الكاملة والجزئيـة حسب إحصاء البيبليوجرافيا العالمية لترجمات القرآن الكريم الكاملة (671 ترجمة، وطبعة)، وبلغت (245) ترجمة جزئية- وذلك حتى عام 1980م- في 23 لغة أوربية، بينما لا تُوجـد محاولـة واحـدة لترجمة الإنجيل من مسلم، فالهجمة من جانب واحد!!

 

 والخطير في الأمر أن صورة الإسلام قد شُوّهت في نظر ملايين البشر ممن يتكلمون هذه اللغات، وهم يُمثلون جزءًا كبيراً من هذه المعمورة شرقاً وغرباً، وأصبحوا لا يكادون ينظرون نظرة جادة للإِسلام كدين.

ثمّ كانت الكارثة الكبرى عند مُحاولة المسلمين الدفاع عن كتاب الله الكريم بانزلاقهـم إلى فـخ الترجـمة، وهم يُحاولـون الرد على الترجمـة السيئة بما يعتبرونه ترجمة جيدة، ناسـين أن كتاب رب العالمين لا يُتَرْجَم، بل يُفَسَّر من المفسرين المؤهلين لذلك - وبشروط المفسرَّين - فالرد على الترجمات في اللغات المختلفة يكون بالتَّفسير إلى اللغات لا بالترجمة:

"فإنه لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن الكريم - وإن كان عالماً أديباً مُتَّسعاً في المعرفة للأدلة والفقه والنحو والأخبار والآثار - إلا بشروط المفسرَّين. وليس له إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي  r  في ذلك؛ فعن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ)).[أخرجه الترمذي في جامعه؛ برقم: (2950)، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ"].

- وروى أبوداود والترمذي من جُندب رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَالَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ، فَقَدْ أَخْطَأَ)) [سنن أبي داود؛ برقم: (3652)، وجامع الترمذي؛ برقم: (2952)]. نقلاً عن [مُقدمة تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن: (ج1/ص25)].

- وقال مجاهد رحمه الله : "لا يحل لأحد يُؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عارفاً بلغات العرب". [الإتقان في علوم القرآن؛ للإمام السيوطي: (ج2/ص477)].

- وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى: "لا أُوتى برجل غير عالم بلغة العرب يُفسر كتاب الله إلا جعلته نكالاً".[رواه البيهقي عن مالك، الإتقان في علوم القرآن: (ج2/ص474)].

- وعن أبي مُلَيْكَة قال: "سُئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه في تفسير حرف من القرآن فقال: (أي سماءٍ تظلني، وأي أرض تقلني، وأين أذهب، وكيف أصنع إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد لله تبارك وتعالى ؟ [رواه البيهقي في شُعب الإيمان؛ برقم: (2279)].

- وقال ابن عطية: (وكان جُلّة من السلَّف الصالح كسعيد بن المسيب وعامر الشعبي وغيرهما يُعظمون تفسير القرآن ويتوقفون عنه، تورعاً واحتياطاً لأنفسهم مع إدراكهم وتقدمهم). [تفسير ابن عطية: (ح1/ص41].

- وقال أبو بكر الأنباري: (وقد كان الأئمة من السلف الصالح الماضي يتورعون عن تفسير المشكل من القرآن، فبعض يقدر أن الذي يفسره لا يُوافق مراد الله عز وجل فيحجم عن القول، وبعض يشفق من أن يُجعل في التفسير إماماً يُبنى على مذهبه ويُقتفى طريقه. فلعل متأخراً يفسَّر        حرفاً برأيه ويخطئ فيه، ويقول إمامي في تفسير القرآن بالرأي فلان الإمام من السَّلف" [نقلاً عن مقدمة تفسير القُرطبي: (ج1/ص60)- طبعة م/ الرسالة].

 

ومن المعروف أن من شروط المفسَّر: أن يكون مسلماً صحيح الاعتقاد مُجرداً عن الهوى، وأن يطلب تفسير القرآن بالقرآن أولاً، ثم يطلب التفسير بالسُّنَّة المطهرة، فإن لم يجد رجع إلى أقوال الصحابة رضوان الله عليهم ثم إلى أقوال التابعين، ثم يأتي بعد ذلك كله العلم باللغة العربية وفروعها كالنحو والصرف وعلم الاشتقاق وعلوم المعاني والبيان والبديع، وعلم القراءات، وعلم أصول الدين، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وعلم أصول الفقه (معرفة وجه الاستدلال على الأحكام وطرق استنباطها)، وعلم الفقه، وعلم الأحاديث والسُّنن والآثار المبينة لتفصيل المُجمع وتوضيح المُبهم، ثم يُضاف إلى كل ذلك علم الموهبة، وهو علم يورثّه الله تعالى من عمل بما علم، لحديث :" من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم" [أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء: (ج10/ص 14 -15)، و هو لا يصح حديثاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من كلام بعض التابعين؛ وقد ضعفه الحافظ العراقي في تخريج الإحياء، والشوكاني في " الفوائد المجموعة" والألباني].

هذه كانت بعض أوصاف المفسرين المعتبرين، فإليك أيها القارئ العزيز بعض أوصاف الغالبية العظمى من المترجمين للقرآن الكريم.

- عدم الإيمان بكتاب رب العالمين

- والشرك بالله والتثليث

- وعد معرفة العربية - إلا فيما ندر، أو بمعرفة غير المتمكن

- والبغض للإسلام والمسلمين، واعتبار القرآن الكريم كتاباً من تأليف الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فيسمونــه "قرآن محمد".

- كما أن نسبة كبيرة من المترجمين هم قساوسة أو رهبان أو مستشرقون أو كهنة أو يهود أو مُنصرون أو قاديانيون مارقون وأضرابهم.

       وعلى سبيل المثال وليس الحصر فإن آخر لغة أوربية دخلت في ميدان الترجمة كانت اللغة النرويجية، واسم المترجم (إينا ربرج)، وهو مدرس زراعة مدمن للكحول من أوسلو ترجم القرآن الكريم بالنرويجية عام 1980م.

 وقلة قليلة من المسلمين تعد على أصابع اليد الواحدة قامت بترجمات إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية. وأعجب لكثير من الدارسين الذين يُجهدون أنفسهم في مراجعة هذه الترجمات ومحاولة تصحيح بعض العبارات التي وردت .

 فيقولوا -مثلاً- إن (دنيس ماسون) في الفرنسية كان من الأولى لها أن تقول كذا بدلاً من كذا. وإن (جورج سال) خانه التعبير في كذا، وإن القس فلاناً كان غير موفق في ترجمة كذا،  ونسي هؤلاء أن الأساس الخطأ لا يُبنى عليه إلا الخطأ ولو كان جميل المنظر، فأكثر من 99% من الترجمات كُتبت بأيدٍ غير إسلامية، ولا توحّد الله تعالى، وهي ترجمات غير صحيحة، وغير مجردة عن الهوى، وهي غير أمينة، وغير مؤهلة للنظر في كتاب رب العالمين من قريب أو بعيد .

 

أما الترجمات التي "انزلق" إليها المسلمون دفاعاً عن القرآن الكريم، فقد كان الأولى أن تكون تفاسير باللغات التي كُتبت بها، لا ترجمات كما يقال. فالتفسير أولى من الترجمة، والتفسير كلام البشر، والترجمة مُحاولة لمضاهاة كلام رب العالمين بلغةٍ غير العربية، وهيهات هيهات أن ينجح بشر - كائناً من كان- في الاقتراب من نطاق التحدي الإلهي .

وقد حاول بعض من المسلمين أن يُقدموا عملاً وسطاً بين الترجمة والتفسير فاختاروا ما يسمى (بترجمة معاني القرآن الكريم) غير مُحددين للكم من المعاني اللازمة لإخراج الترجمة عن كونها ترجمة للقرآن الكريم حتى تُصبح ترجمة معانٍ.

فكثيراً ما رأينا ترجمات كُتب عليها أنها ترجمات معانٍ بلغة كذا، وعند دراستها وجدنا أنها تكاد تكون ترجمة حرفية للقرآن الكريم، إلاّ ما يضطر إليه المترجم من عدم التطابق لطبيعة اختلاف اللغات .

وتتأرجح ترجمة المعاني دون أي انضباط بين الترجمة والتفسير، وتختلف طولاً وقصراً دون مقياس معروف .

لذا نجد بعض العلماء قد قسم هذا النوع من الترجمات - أي ترجمات المعاني - إلى العديد من الأقسام: "ترجمة معنوية، وترجمة تفسيرية، وترجمة مساوية، وترجمة غير مساوية، وترجمة شبه مساوية" [2] .

وأقول إن ترجمة المعاني يمكن أن تنقسم إلى عدد لانهائي من الأقسام، وذلك لاختلاف كم المعاني الواردة في الترجمة. (انظر الجدول).

 

 

ولعل في قرار الأزهر الشريف حسماً للموضوع، وحلاَّ أمثل. فقد رأى العلماء أن يُوضع تفسير مُوجز للكتاب الكريم باللغة العربية. ثم يترجم هذا التفسير إلى اللغات المختلفة.

فالذي  يُترجَم حينئذٍ هو كلام البشر وليس كلام رب العالمين، والمترجم هنا لا ينشغل كثيراً بحسن التفسير - حيث قام بذلك المختصـون - بل ينشغل بإتقان ترجمة التفسير الذي يعالجه، وليس معنى ذلك أن المترجم لا تحكمه شروط دقيقة من: (الإسلام، وصحة الاعتقاد، والبعد عن الهوى، والتمكن من العربية، واللغة التي يترجم لها - ويُستحسن أن يكون من أبنائها - ومن الدارسين للعلوم القرآنية والإسـلامية بوجه عامَّ، وإن لم يبلغ درجة المفسرين.

فعليه  أن يكـــون أقرب ما يُمكن من ذلك، اطمئناناً لترجمته وفهمه للموضوع، وإخلاص نيته ودينه، للتفاني في توصيل المعنى الذي يُعالجه إلى اللغة التي يترجم إليها.

 وقد وضع الأزهر قواعد عامَّة لهذا التفسير، أُحب أن أُورد نصَّها لما لها من أهمية لمثل هذا التفسير المأمول ترجمته للشعوب المختلفة إسلامية وغير إسلامية حتى يكون تعريفاً صحيحاً ودقيقاً لبعض ما في هذا الكتاب من النور والآيات المعجزات ومن الهداية للبشرية جمعاء. وتنص هذه القواعد على ما يلي:

1 - أن يكون التفسير خالياً ما أمكن من المصطلحات والمباحث العلمية، إلا ما استدعاه فهم الآية.

2 - ألا يتعرض فيه للنظريات العلمية، فلا يذكر مثلاً التفسير العلمي للرعد والبرق عند آية فيها رعد وبرق، ولا رأي الفلكيين في السماء والنجوم عند آية فيها سماء ونجوم، إنما تُفسر الآية بما يدل عليه اللفظ العربي، وتُوضع مواضع العبرة والهداية فيها.

3 - إذا مست الحاجة إلى التوسع في تحقيق بعض المسائل وضعته اللجنة في حاشية التفسير.

4 -  ألا تخضع اللجنة إلا لما تدل عليه الآية الكريمة، فلا تتقيد بمذهب معين من المذاهب الفقهية، ولا مذهب مُعين من المذاهب الكلامية وغيرها، ولا تتعسف في تأويل آيات المعجزات وأمور الآخرة ونحو ذلك.

5 - أن يُفَسّر القرآن بقراءة حفص، ولا يتعرض لتفسير قراءات أخرى إلا عند الحاجة إليها.

6 - أن يجتنب التكلُّف في ربط الآيات والسُّور بعضها ببعض.

7 - أن يذكر من أسباب النزول ما صح بعد البحث، وأعان على فهم الآية.

8 - عند التفسير تُذكر  الآية كاملة أو الآيات إذا كانت مرتبطة بموضوع واحد، ثم تُحرر معاني الكلمات في دقة، ثم تُفسر معاني الآية أو الآيات مُسلسلة في عبارة واضحة قوية، ويُوضع سبب النزول والربط وما يؤخذ من الآيات في الموضع المناسب.

9 - ألاّ يُصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع بين الآيات.

10- يُوضع في أول كل سورة ما تصل إليه اللجنة من بحثها في السورة: أمكيَّة هي أم مدنيَّة؟، وماذا في السورة المكيَّة من آيات مدنيَّة، والعكس؟.

11- تُوضع للتفسير مُقدمة في التعريف بالقرآن، وبيان مسلكه في كلَّ من فنونه  كالدعوة إلى الله، وكالتشريع، والقصص، والجدل، ونحو ذلك. كما يذكر فيها منهج اللجنة في تفسيرها[3].

 

طريقة التفسير:

 

ورأت اللجنة بعد ذلك أن تَضع قواعد عامة عن الطريقة التي تتبعها في تفسير معاني القرآن الكريم، ننشرها فيما يأتي:

1- تبحث أسباب النزول والتفسير بالمأثور، فتفحص مروياتها وتنقد، ويُفسر الصحيح منها بالتدوين، مع بيان وجوه قوة القوى، وضعف الضعيف من ذلك. 2 -      تُبحث مُفردات القرآن الكريم بحثاً لُغوياً، وخصائص التراكيب القرآنية بحثاً بلاغياً وتُدون .

3 - تُبحث آراء المفسرين بالرأي والتفسير بالمأثور، ويختار ما تُفسر الآية به من بيان وجه رد المردود وقبول المقبول.

4 - وبعد ذلك كله يُصاغ التفسير مستوفياً ما نص على استيفائه في الفقرة الثانية من القواعد السابقة، وتكون هذه الصياغة بأسلوب مُناسب لإفهام جمهرة المتعلمين، خالٍ من الإِغراب والصِّنْعة.   

وفي ظل هذه القواعد والأصول أعدت (لجنة القرآن الكريم والسُّنَّة المشرَّفة) التابعة للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية في القاهرة تفسيراً للقرآن الكريم باسم "المنتخب"، وقالت اللجنة في مُقدمته إنه جاء محققاً لآمال الدارسين، وتميز بملائمة حجمه، وعظم فائدته، وشموله لما يهم المسلم العابد، أو الدارس لتفسير كتاب الله العظيم.

وقد توافر على تأليف هذا التفسير لجان علمية من جهابذة  العلماء، وفطاحل الباحثين والمفكرين، فجاء بأسلوب عصريّ سهل، مُبسط، واضح العبارة، وجيز لا يخل ولا يمل، بعيد عن الخلافات المذهبية، والمصطلحات الفنية، والحشود والتعقيدات اللفظية فكان على حالة مُرضية من الصلاحية لترجمته إلى اللغات الأجنبية التي يُرجى للمتكلمين بها أن يطلعوا على ما في هذا القرآن من العقائد والمبادئ والتعاليم التي يهتدون بهديها، إنجازاً للواجب الملقى على عاتقنا نحن المتكلمين باللغة العربية من وجوب ترجمة (أي تفسير) معاني القرآن إلى غير العربية، فيتسنى للرسالة أن تكون كافّة للناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، فإن الله تبارك وتعالى يقول:

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)     (إبراهيم: 4)                                                           

 

وإن ترجمة هذا التفسير إلى اللغات الأخرى هي الجواب الشافي والرد الوافي على ما يُسمى بترجمات القرآن الكريم.

وقالت اللجنة إنه سوف يتلو هذا التفسير الوجيز تفسير آخر "وسيط" في شيء من البسط، يُعنى فيه بمزيد من البحث والنظر واستخلاص العبر والآداب والتعاليم والتوجيهات التي تأخذ بيد المسلمين، لينهضوا ويُكيفوا حياتهم على ما تقتضيه آيات هذا الذكر الحكيم من الأخذ بأسباب القوة والعزة والكرامة.

 

"التفسير باللغات المختلفة أولى من ترجمة المعاني":

 

مرت قرون طويلة منذ دخول الشعوب المختلفة الدين الإسلامي، ولم نعهد وجود مشكلة في تبيين وتبليغ الناس حقيقة دينهم، بل استمر الإسلام في الاندفاع شرقاً وغرباً، وظهر من غير العرب علماء أفذاذ في كل فروع المعرفة الإسلامية، فضلاً عن علوم الدنيا، بل لعل هؤلاء العلماء المسلمين من غير العرب فاقوا أقرانهم من العرب في علوم الدين وحتى في علوم اللغة العربية.

واستمرت المعرفة الإسلامية تنمو وتتعمق على مدار السنين لدى الشعوب الإسلامية المختلفة غير الناطقة بالعربية كالشعوب الفارسية والتركية وشعوب ما وراء النهر وشعوب شبه القارة الهندية. فلابد وأن هذه المعارف الإسلامية كانت تُترجم لكل أمة بلغتها في مبادرة عفوية طبيعية أوجبتها طبيعة الأشياء.

 وهناك تراث هائل في التفسير باللغات الإسلامية المختلفة. "وقد ذكر الجاحظ (255هـ) أن فصاحة موسى بن يسار الأسواري بالفارسية كانت في وزن فصاحته بالعربية، فكان يجلس في مجلسه المشهور فيقعد العرب عن يمينه والفُرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله فيفسرها للعرب بالعربية، ثم يحول وجهة إلى الفُرس فيفسرها بالفارسية، فلا يدري بأي لسان هو أبين"[4].

 فالقرآن الكريم كان يُفَسَّر لكل أمة بلسانها، ولعلّ مولانا أبا الأعلى المودودي قد أصاب عندما سمى تفسيره للقرآن الكريم بالأردية "تفهيم القرآن"، وهو بكلمة تفهيم قد عبّر عن الحاجة الحقيقية للمسلم غير العربي لفهم القرآن الكريم.

وقد ظهرت الحاجة إلى تفسير القرآن الكريم باللغة الفارسية في وقت مبكر، ففي عهد الملك الساماني أبي صالح منصور بن نوح بن نصر أحمد بن اسماعيل - في حوالي عام 311هـ - تمت ترجمة مختصرة لتفسير "جامع البيان في تفسير القرآن " للإمام محمد بن جرير الطبري-رحمه الله-، وأعقبها ترجمة لنفس التفسير باللغة التركية، وإن كان هذا التفسير بالتركية لم يُعثر عليه، إلا أن أقدم تفسير بالتركية الشرقية كان في عام 734هـ، وهناك نسخة محفوظة في متحف الآثار التركية الإسلامية باستانبول[5].

 ثم توالت التفاسير باللغات الإسلامية فكان تفسير مولانا شاه رفيع الدين دهلوي بالأردية في عام 1190هـ، ثم إلى البنغالية، والكجراتية، والكشميرية، والسندية، والهندية، والبنجابية، والباشتوية، والمالاوية، والإندونيسية، والصينية.

 وكانت هذه التفاسير الآسيوية الإسلامية لا تثير خلافاً أو انتقاداً، فقد كانت الشعوب الإسلامية تبذل الجهد الممكن لفهم كتاب الله الكريم بالطريق الطبيعي (التفسير) وليس ترجمة القرآن. ثم استيقظ المسلمون في العصر الحديث - وفي العشرينيات والثلاثينات - من هذا القرن على وجه التحديد على ثلاثة أمور:

1 -  ظهور ترجمة للقرآن الكريم باللغة الإنجليزية لمحمد علي اللاهوري  من الفرقة (الديانة) القاديانية المنحرفة.

2 -  الحركة الكمالية في تركيا وإلغاء الخلافة الإسلامية.

3 - بدأ العالم الإسلامي يتعرف على الترجمات الأوروبية، ويكتشف تلاعب القوم وتحريفهم للمعاني القرآنية.

 

بقلم: أ. د حسن المعايرجي

_______________

[1] - ويحاول مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باستانبول تسجيل هذه التفاسير على أشرطة صوتية حفظا لهاً من الضياع.

[2] – د. محمد أحمد السنباطي، "ترجمة المعاني القرآنية".

[3] - مجلة الأزهر - السنة السابعة - المجلد السابع - ص  648-649 ، 1355 هـ-  1936م

 [4] - أكمل الدين إحسان أوغلي - مدخل إلى تاريخ ترجمة معاني القرآن الكريم - البيبليوغرافيا العالمية لترجمات معاني القرآن الكريم - ص 12 استانبول 1986م .

[5] - اكمل الدين إحسان أوغلي – مدخـل إلى تاريـخ ترجمة معاني القرآن الكريم - البيبليوغرافيا العالمية لترجمات معاني لقرآن الكريم - ص 12 استانبول 1986 م.

 



مقالات ذات صلة