تفاصيل المقال

التقارب والاختلاف في النصوص المقدسة – (2) ..  الدكتور حسين رضوان اللبيدي

التقارب والاختلاف في النصوص المقدسة – (2) .. الدكتور حسين رضوان اللبيدي

مقدمة هامة

إن الحروب الظالمة باسم المقدس - والتي تعتمد على نُصوص مُحرَّفة أو قراءة خاطئة لنصوص قديمة أو أفكار من تلبيس إبليس – كارثة عالمية بكُلِّ معاني الكلمة، فهي وسيلة من وسائل الشيطان لإخراج المُكَّلف من واحة الأمن والأمان في الدنيا وجنَّة الخلد في الآخرة، وتحويل الأرض إلى غابة من المظالم والظلمات.

ووحي الله للمكلفين لم ينزل ليقرر التكبر والعنصرية في مملكة الله، ولم ينزل ليكون سبباً في الفُرقة والصراعات بين الإنسان وأخيه الإنسان، بل نزل هادياً ومُبشِّراَ ونذيراً وداعياً إلى الحقِّ بإذنه وسراجاً مُنيراً، نزل ليقول لهم: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 65]، ويقول لهم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].

 ويقول رسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم: (النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ) [أخرجه الترمذي؛ برقم: (3955)، وقال: حديثٌ حسن]. وقال صلى الله عليه وسلم: (أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى) [أخرجه الإمام أحمد في المسند؛ برقم: (22978)]، هذا جوهر الدين الحق، وهدف الوحي للمكلَّفين، وهو ما تُحاول الشياطين أن تُشوش عليه في عقول الذين لا يعلمون عن الدِّين إلا الاسم، ولا يعلمون عن الوحي إلا الرَّسم، تُحركهم الأهواء، وتُرهبهم الطواغيت، وما يَعدهم ويُمنيهم الشيطان إلا غروراً ..

 

وكم من ضحايا سقطت ومظالم ارتكبت بسبب ذلك التلبيس الباطل، فعلى العقل الراقي أن يتفكر ببصيرة ولا يسير كالأعمى فيهلك ..

فإذا كان الرب واحد بلا شريك، له صفات الكمال بلا حدود، فإنّ دينه واحد يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90]، والفحشاء والمنكر والبغي تُلخص كُلّ الأمراض الجسدية والنفسية والاجتماعية التي تُدَمِّر الحضارة البشرية، وتشيع الظلم والصراعات بين عبيد الرب الواحد سبحانه وتعالى ..

فهل نعبد الله بالتكبر على عبيده في مملكته؟، وهل نعبد الله بقتل الساجدين له والتالين لوحيه الحق؟، وهل نعبد الله بالسَّرقة واغتصاب مُقَدَّرات عبيده في أرضه؟، وهل نعبد الله بإشاعة الفسق والفجور والمعاصي؟، وهل أعطى الرَّب حق التأله بين خلقه لغيره ؟ ..

 وهل جعل الله للمكلَّفين رسالات مُتناقضة حتى يتصارعوا، ويقتل بعضهم بعضاً؟، بل هي رسالة واحدة من ربّ واحد، تتوحد بها البشرية علي الحق، وقبلة واحدة يطوف حولها كُلّ عبيده من المكلَّفين قائلين: " لبَّيك اللَّهم لبَّيك، لبَّيك لا شَريك لك لبَّيك" ..

 

ولكي نصل إلي اليقين في صدق الرسالة وصدق الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم، وحتى نتوصل إلي الرسالة الوحيدة الباقية بلا بديل، نحتاج إلي رحلة إلي اليقين، وهذا ما نعد به بإذن الله تعالى ..

 

رحلة اليقين .. (أرحل من الأَكْوَان إلى المُكَوّن)

هيا بنا نتفكر ساعة قبل قيام الساعة؛ لنصل إلى الحقّ واليقين، والحق أحق أن يُتَّبَع ..

إنّ العقل المُكَلَّف عندما يفيق من العمل أو اللَّهو وينقطع عن العلائق، قد يسمع عقله يتساءل: لماذا نَحْنُ هُنا؟، ثُمّ ماذا بعد ذلك؟، ما الحكمة من وجودنا في هذا الكون؟، هل خُلقنا لنعيش لحظات سرعان ما تنقضي، فنلحق بفناء لا عودة بعده؟، وعندما تسمع النفس الإجابة الشيطانيّة: إنّما خُلِقَت بالصُّدفة والعشوائية لتعيش لحظات قصيرة تهلك بعدها بلا عودة، فإنَّ النَّفس تَتَوَحّشُ أو تَكْتَئِبُ ..

* - تتوحش النَّفس: عندما تعتقد أنها خُلقت بالصُّدفة لتعيش لحظات قليلة تهلك بعدها بلا عودة؛ لأنها تحاول - في هذه الفترة القصيرة -  إشباع شهواتها بكل الوسائل، لأقصى حد مُمكن ..

* - وتَكْتَئِبُ النَّفس: عندما تعتقد أنها خُلقت بلا هدف أو غاية .. خُلقت لتعيش لحظات لتهلك بلا عودة، لذا تنطوي على نفسها، فتأتيها الوساوس والهواجس نتيجة فراغ القلب من الإيمان، فيحدث الاكتئاب، والعياذ بالله تعالى - عند الشدائد أو المظالم – ؛ لأنَّها لا تُوقِن بالصَّمد القادر الرَّحمن الرَّحيم الحَكَم العَدل المُهيمن ..

 

* - أمَّا النَّفس التي تعتقد بأنَّها خُلقت لهدف غايته الكمال، وأنَّ من فوقها قادر مُطلق القدرة، رحمن رحيم حكم عدل، وأنَ هناك يوم للحساب، يوم الخلود، فإن تلك النَّفس لا تَكْتَئِب أبداً ولا تتوحش أو تظلم؛ بل نفس تعيش للأمل والحُبّ والصَّفح والرَّحمة ..

وحتّى نصل إلى حق اليقين في ذلك الموضوع الجليل: يجب علينا أن نقوم برحلة عقلية علمية راقية، وأدواتنا في تلك الرحلة: عقل كونيّ مُكَلّفٌ، وكَوْنٌ معقول ووحي صادق، والعقل حق لا يُنكره إلا مجنون، والكون من حولنا حقيقة لا يُنكرها إلا مخبول، والوحي الصَّادق قام عليه ألف دليل ..

وأوّل ما سنتفكر فيه من بداية هذه الرحلة ذلك العقل المكَلَّف المزود ببرنامج مُتوافق مع برنامج كَوْن معقول توافقاَ لولاه ما أدرك ذلك العقل، ذلك الكون، وما تُفكر فيه مُتدبراً ومُكتشفاً ومُسخراً ومُستفيداً ..  فمن الّذي برمج وقدَّر وهدى .,

وهدف هذه الرحلة: اليقين بأنَّ لذلك الكون العظيم خالقاً له صفات الكمال، وأنّه سبحانه وتعالى لم يخلق ذلك الكون عبثاً أو باطلاً، بل خلقه لهدف غايته الكمال ..

 وأيضاً من أهداف تلك الرحلة: اليقين بأنَّ الخالق العليم الحكيم أرسل رُسله برسالات السماء هُدى ورحمة وتذكيراً ونذيراً لعباده المكلَّفين، وأنَّ هناك يوم للحساب،  هُو يوم الخلود .. فهيا بنا نسير في تلك الرِّحلة لنرحل من الأكوان إلى المُكون سُبحانه جلَّ وتعالى شأنه:

أَتُوقِنُ يا أخي بأنّ لكُلِّ صِنعة صانع حتى ولو كانت عود ثقاب أو دبُّوس بسيط؟ (نعم أُوقِنُ) .. أتُوقن يا أخي بأنّ الصنعة إذا كان يتجلى فيها الدّقة والعلم والحكمة والتقدير، فإنّ الصَّانع لابد وأن يكون عليماً وحكيماً وقديراً ؟ (نعم).. فبماذا تُوقِنُ عندما ترى كوناً من حولك غاية في العظمة والتقدير، تتجلي فيه أعلى درجات الحكمة والعلم والدِّقة من ذراته إلى مجراته، ومن أرضه إلى سمائه؟ (أُوقن بأنّ مَن فوقه خَلاَّقٌ عليمٌ له صفات الكمال والجلال سُبحانه وتعالى) ..

 

هل تشك يا أخي أنَّ الصانع الماهر يُتابع صنعته بإرسال الفنيين يحملون النُّصح والتوجيه والكتالوج حتى تعصم صنعته من التلف وتسير على أكمل وجه يرتضيه الصانع؟ (لا أشك) ..

كيف وخالق ذلك الكون العظيم ذو التقدير المحكم؟ ..

هل تُوقن يا آخي بأنَّ الصانع يهدف من وراء صنعته إلى هدف غايته الكمال؟ (نعم أُوقن) ، إذا لابد أن تُوقن بأنَّ خالق ذلك الكون العظيم لم يخلقه عبثاَ أو باطلاَ، بل خلقه لهدف غايته الكمال ..

فهل من المعقول أن يترك الخالق العليم الحكيم المكلَّفين من عباده بلا توجيه أو رعاية؟ ..

  وهل من المعقول أن يُسَوِّى – سبحانه وتعالى -  بين المؤمنين والكافرين، أو بين الصالحين الطيبين والمجرمين المفسدين؟ .. إن الوحي حق، وإنَّ يوم الفصل حق ..

* -  إذا كانت غاية الأرض أن تُمَهَّد لك لتسطيع العيش عليها، وغاية القمر أن يُنِيَر الأرض لك ولتعلم من منازله الوقت وعدد السنين والحساب، وغاية الشمس الجبَّارة أن تمنحك الطاقة ولا تَحرقك  وغاية الرِّياح  والبحار والأنهار أن تحفظك وتخدمك، وغاية العقل المكلَّف أن يجعلك تتفكر في كل ذلك وتسأل: ما الهدف والغاية التي من أجلها خُلقت وسُخرت لي كل تلك الأشياء من الذَّرات إلى النجوم والأقمار والطَّاقات والكائنات الحيَّة، ومنحت عقلا ًكونيّاً راقياً مُزوَّداً بقناة تبحث عن الحكمة؟ .. فيسمع القلب من لدن (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) حتى نزول الفرقان .. يسمع (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فيتساءل القلب كيف نعبدك ربى عبادة تَرْضَى بها عنَّا فيسمع القلب (اتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ) ..

 

والوحي الحق أرسله العليم ليصاحب القلب (العقل المكلف) - سريع التَّقَلُّب -  في رحلة التكليف يهديه إذا ضَلّ، ويُقوِّمه إذا اعْوَجّ، ويَشفيه إذا مرض، بشيراً ونذيراً ..

 ولقد شاءت إرادة العليم الحكيم أن تتنزل رسالاته على مراحل وفِقاً لمراحل أطوار البشرية، كما أنّ الطّفل المولود حديثاً يُناسبه لبن الأم الخفيف المتُوافق مع سنِّه، حتى إذا  بلغ أشُّده احتاج إلى غذاء أكثر ثراء وتركيزاً ينسخ ما سبقه ..

وهكذا جاءت الرسالات مُتتالية حتى انتهت برسالة - دين كمال البشرية العالمي الخالد- الإسلام نسخ به ما سبقه، وليس النَّسخ باللاحق معناه العيب والقصور في السابق، فالكُلُّ حق من الحقِّ سُبحانه وتعالى، والوحي الأخير فيه كلّ ما سبقه من الحق وزيادة ..

 

وقد يقف العقل حيران أمام ظاهرة يعيشها في هذا الزمان، إنها ظاهرة وجود كُتب مُتعددة بينها اختلاف يَجُرُّ إلى صراعٍ وخِلافٍ، يدَّعي صاحب كُلّ كتاب أن كِتَابه هو وحي السماء الوحيد الخالد المحفوظ، فأين الحق من بين ما هو مُتاح؟ ..

التوراة حق، والإنجيل حق، وكل ما نَزَل من عند الله حق، وليس من المعقول أن يجعل الله - العليم الحكيم الرَّحمن الرحيم- رسالات مُتعددة ومُختلفة في فترة زمنية واحدة تدفع عباده للتخاصم والتفرق بل للتصارع، ولكن الحق هو أن يبقى حق وحيد في أي فترة زمنية يُشكل قبلة يتوحد عليها عباده فلا يضلوا ولا يتصارعوا.    فأين الحق المحفوظ فيما هو متاح؟ ..

 ولكي نصل إلى اليقين في التّعرف على كلام الله الخالد المحفوظ، يجب أن نعلم خصائص كلام الله ووحيه سُبحانه وتعالى للمُكَلَّفين ..

 

خصائص كلام الله ووحيه للمكلفين:

1 - روح كلام الله جلّ وعلا، مخُالفة لروح كلام البشر، يحس المستمع إليه أنَّه يأتي من أعلى مُحاطاً بالجلال والجمال، يأسر العقل ويهز الوجدان ..

2 - كلام الله مُعْجز بكل المقاييس، وخالٍ تماماً من الاختلاف والتحريف والكلام الفاحش ..

3 - كلام الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمُنكر والبغي ..

4 - كلام الله يُنَزِّه الله مما لا يليق بكماله، ويُنَزِّه رُسُل الله عليهم السّلام مما لا يليق بحملة رسالات الله ..

5 - كلام الله يحتوى على برنامج عقلي يأخذ بالعقل المُكَلَّف على مدارج السالكين في عالم الشهود، حتى إذا وصل إلى مُنتهاه أطلَّ إلى عالم الغيب وكأنه يراه، فيؤمن بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر ..

6 - كلام الله العالميّ الخالد يحتوى على مِنهاج عالميّ يُحقق العدل والتوازن بين الإنسان ونفسه، والإنسان وأخيه، الإنسان والإنسان والكون من حوله ..

7 - كلام الله يكون صادقاً في إخباره عن الغيب (يشمل الغيب العلميّ والغيب التاريخيّ) ..

8 - كلام الله يصف الكون في أدق تفاصيله من البداية إلى النهاية، ويُشير إلى حقائق علمية من الذَّرة إلى المجرَّة، ومن النُّطفة إلى العقل البشريّ، تتطابق مع الحقائق العلمية المكتشفة بأدقّ وسائل التقنية الحديثة ..

فإذا لم تنطبق هذه الخصائص على كتاب قيد الفحص، فإني أحكم عليه بأنه مُزيف، وإذا انطبق بعضها ولم ينطبق البعض الآخر، فإني أحكم عليه بأنَّه مُحرف مشكوك فيه، وإن انطبقت كلّ هذه الشروط على كتاب فإنِّي أُوقِنُ بأنَّه كلام الله الخالد الباقي المحفوظ ليدين به المكلَّفون، فيقودهم إلى الهُدى ودين الحق ..

 

وكلُّ البحوث الدقيقة بيَّنت أنّ تلك الشُّروط لا تنطبق إلاَّ علي كتاب وحيد من بين الكُتب المُتاحة للفحص، ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه، هو القرآن الكريم..

وحتىَّ تكون الدراسة علمية ومنطقية بعيدة عن التَّعصب والعصبية سنستخرج من الكُتب المُتاحة المعاني المُتقاربة، والتي يُمكن أن تُشكِّل العامل المشترك الذي يُمكن أن نتَّفق عليه- وتُشكِّل الإسناد الذي يمكن أن نتحاكم عليه لمعرفة الوحي الحقّ المحفوظ - مثل تنزيه الله مما لا يليق بكماله سبحانه، وتنزيه رُسل الله عليهم السَّلام مما لا يليق بحملة رسالات السماء - ، ودستور الوحي الذي يأمر بالعدل والإحسان، وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ، ثم ندلف إلي القضايا الخلافية الخَطِرَة والتي يستخدمها الشياطين في تحقيق أغراضهم الخسيسة، وفى تأجيج حروب ظالمة وغير مُبرره بين عباد الله المكلَّفين،  ثُمَّ نُناقش تلك القضايا الخَطِرة بحياد ومنطقيَّة بعيداً عن التعصب الأعمى والعصبية البغيضة حتى نصل إلى الحق والحقُّ أحقُّ أن يُتَّبع .. والله غَالِبٌ عَلى أَمْرِه ..

* - للموضوع - صلةٌ – بمشيئة الله تعالى ..

* - بقلم: الدكتور حسن رضوان اللبيدي، مدير مستشفى الصّدر بجرجا – ومدير جمعية الإعجاز العلمي في القُرآن والسنّة –بجنوب الوادي/ مصـــر



مقالات ذات صلة