تفاصيل المقال

الأسلوب القُرآني وتأثيره – يقلم الأستاذ محمود سيد علي شقير، من عُلماء الأزهر الشريف ..

الأسلوب القُرآني وتأثيره – يقلم الأستاذ محمود سيد علي شقير، من عُلماء الأزهر الشريف ..

 

الأسلوب القُرآني وتأثيره – يقلم الأستاذ محمود سيد علي شقير، من عُلماء الأزهر الشريف ..

 

أتى القرآن الكريم بأسلوب معجز متميز عن بقية الأساليب المألوفة في وقته؛ لأنه من الله، فبهر الناس حينما سمعوه، وأسر منهم القلوب وسيطر على نفوسهم، فاستجابت الأفئدة إليه، ولم تنأ عنه إلا القلوب المريضة التي قست كالحجارة فلم تستجب لدعوته، ورصدت نفسها لمحاربته والوقوف أمام دعوته في الهداية للحق؛ حفاظًا على ما لهم من سلطة، ودفاعًا عن تقاليدهم العفنة، وعباداتهم الباطلة ..

 

حاربوا القرآن بمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا يكيلون إليه التهم الباطلة، ويلفقون الأكاذيب، ويمنعون الناس من الاستماع إليه، ويعذبون من يتلو القرآن من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام .. سلكوا هذه المسالك لأنهم عجزوا عن محاكاة القرآن أو الإتيان بمثل أقصر سورة فيه، وتهاوت أسلحتهم العديدة أمام هذا الكلام المعجز بلفظه وعباراته، وسبكه وصياغته، وأخباره ونواهيه .. إلخ كل هذه الألوان المؤلفة من جنس ما يقولون ويؤلفون .. ولكنهم عاجزون أن يأتوا بمثله، وهو الذى سمعته الجن فقالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)[سورة الجن] ..

 

وسمعه نفر من النصارى فخشعت له قلوبهم وقالوا، كما عبر القرآن الكريم: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83))[سورة المائدة] ..

 

وسمعه زعيم من زعماء قريش فقال: "إنه يعلو ولا يُعلى عليه" ..

نطق بالشهادة الحق في قرآن الله الذي كان له وقعه في القلوب والنفوس، فكان يقتلع منها عقيدة الشرك وهجمة الباطل ..

 

وما لنا لا نذكر ذلك الموقف الذي كان له تأثيره في مجرى الأحداث في بدء الإسلام، فأمد الإسلام بجبار الجاهلية: عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأرضاه .. لقد دخل على أخته حينما سمع بإسلامها يُريد أن يبطش بها، وتناولت عيناه صحيفة القرآن، فقرأ: (طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ (3) تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ (6))[سورة طه] ..

فأخذته رجة عنيفة أصابت مكمن الحقيقة من نفسه وقلبه وعقله، فقال: "دُلوني على محمد" ..

موقف تعجز مُؤثرات الحياة ومغرياتها أن تحول تلك الطاقة من نقيض إلى نقيض، من جاهلية إلى إسلام، من شدة بغض إلى تفان في حب، من جبار في الجاهلية إلى عادل في الإسلام.. كل ذلك فعلته تلك الآيات القرآنية التي جمعت بين الأسلوب الإنشائي في النداء بكلمة ((طه))، وبين الإخبار بالنعم الجليلة التي أسبغها الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهى نعمة القرآن والإسلام وما به من سعادة .. والتذكرة لأصحاب القلوب التي تخشى الله .. والإعلام بخالق الأرض والسماء، والجدير بالعبادة والإيمان والطاعة ..

كل ذلك كان سبيلاً إلى قلب عمر وعقله، فاستجاب لله، وكان سلاح الإسلام وعونه ضد الشرك وأعوانه ..

 

موقف آخر يدل على تأثير القُرآن في النفوس المتفتحة لقبول الدعوة والاستجابة لكل معروف، فقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أول معلم للقرآن إلى المدينة بعد أن دخل بعض أهلها في الإسلام، وهو: مصعب بن عمير رضي الله عنه، فأخذ يُعلمهم القُرآن، وعلم بذلك سعد بن معاذ سيد الأوس، ففزع فزعًا شديدًا، ورأى أنَّ هذه بداية لشيء خطير يُزلزل من مكانته، فقال لابن أخيه أُسيد بن حضير: ألا تذهب إلى هذا الرجل وتزجره؟! فلما ذهب إليه أُسيد، قال له: ما جاء بك؟ وهدده، وقال له: اعتزل إن كان لك في نفسك حاجة، ولكن مُصعبًا أجابه في ثبات المؤمن، قائلاً: ((أو تجلس فتسمع؟، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره)) ..

ثم أخذ مُصعب يقرأ القرآن، وأُسيد يسمع، فما قام من مجلسه حتى أسلم، ثم ذهب إلى عمه، وقال له: ((ما رأيت بالرجل بأسًا))، فغضب سعد، وذهب إلى مصعب ثائرًا، فاستقبله مصعب بمثل ما استقبل به أسيدًا، وانتهى الأمر بإسلام سعد الذى ذهب إلى قبيلته وجمعها، وقال: ((ما تعدونني فيكم؟ قالوا: سيدنا، وابن سيدنا. فقال سعد: كلام رجالكم ونسائكم علىّ حرام حتى تُسلموا، فأسلموا جميعًا)) ..

 

ويكفى أن هذه الآيات من كلام رب العالمين، الآمر بكل حسن، الزاجر عن كل معصية، الداعي إلى مكارم الأخلاق، الهادي إلى الصراط المستقيم، والمعجز بكل صوره وأشكاله الأسلوبية التي صِيغَ منها فهو مُتنوع بين الأسلوب الخبري والإنشائي، والإيجاز والإطناب والأسلوب المباشر، والأسلوب القصصي، والأسلوب المعتمد على الوصف، والأسلوب الحكمي، والأسلوب القائم على ضرب المثل .. إلى اللفظ المعبر، والتعبير المصور والمشخص .. كل هذا التنويع جاء في مقامه، ونجح في تحقيق أهدافه. وكل هذه الأسرار الأسلوبية دفعت أصحاب البلاغة إلى تلمس معرفتها، والوصول إلى خفاياها ..

______________

المقال بقلم الأستاذ: محمود سيد علي شُقير، من عُلماء الأزهر الشريف ..

 



مقالات ذات صلة