تفاصيل المقال

مسيلمة الكذّاب وأحفاده .. ومُحاولات فاشلة للطَّعن في القُرآن الكريم – بقلم: العالم الجليل أ. د. محمد عمارة -(حفظه الله) ..
وإذا كان نفرٌ من أصحاب أساطين الشرك في الجاهلية، قد شهدوا "للقرآن الكريم" بأنه لا يمكن أن يكون من كلام الإنس ولا من كلام الجن .. ومع ذلك مَنَعَتْهُم العصبيةُ لما وجدوا عليه آباءهم من الإيمان بما جاء به "القرآن الكريم"، ومن التحوُلِ عن الجاهلية إلي الإسلام .. فإن الجاهلية التي نَزَلّ "القرآن" علي أهلها قد شهدت ردود فِعْل أخري .. لكنهم جميعاً قد وقفوا أمامه عاجزين عن الإتيان بشيء من مثله ..
فالذين قالوا: إنَّه سحر .. وأنَّ الذي جاء به ساحر .. قد سلَّموا بأنَّه فوق ما يستطيعون !! .. وكذلك الذين قالوا: إنَّه أساطير الأولين .. سلَّموا بأنهم لا يستطيعون محاكاته، لأنهم ليسوا هؤلاء الأولين !! .. ومثلهم الذين قالوا: إنما يُعَلِّمُه بَشَرٌ أجنبي، لا يستطيعون مُحاكاته والإتيان بمثله، !! .. جميعاً سلَّموا بعجزهم عن مُجاراة "القرآن الكريم"، مُعَلّقِينَ سببَ العجز هذا علي مختلف الأسباب! .. اللهم إلا واحداً من هؤلاء، دَفَعَتْه العصبية لقبيلته – "حنيفة" – ضد "مُضّر" و "قريش"، إلي أن يُحاول تقليد "القرآن"، فجاءت محاولته نموذجاً خالداً من نماذج السُّخرية والهزل والإضحاك .. وذلكم هو "مُسيلمة الكذاب" [12هـ – 633م] الذي قال لأتباعه: إن "رحماناً" ينزل عليه .. وإنَّ له – هو الآخر كتاباً، جاء فيه : "إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر .. والفيل وما أدراك ما الفيل. له خرطوم طويل .. ضفدع بنت ضفدعين، نِفِّي ما تنقين أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارك تمنعين، ولا الماء تكدرين .. والليل الأطخم، والذئب الأدلم، والجزع الأزلم، ما انتهكت أُسيد من محرم .. ألم تر كيف فَعَلَ رَبُّكَ بالحُبلَي، أخرج منها نَسمة تَسعي، من بين صفاق وَحَشى" !!.
* * * *
ولقد ظلت عبارات "مسيلمة الكذَّاب" هذه تُثير السخرية، علي امتداد أربعه عشر قرناً .. حتي جاء "أحفاده" ليصنعوا شيئاَ من مثل ذلك ويضعوه علي شبكة "الإنترنت" قائلين : إنه قرآن جديد !! ..
o في الموقف الغربي من القرآن، تنوعت الاتجاهات التي تَصَدَّت "للقرآن الكريم" ..
o فوجدنا تيار العداء الفجّ والصريح للقرآن الكريم ..
- ومن نماذج هذا التيار "مارتن لوثر" [1483– 1546م] الذي قال عن "القرآن الكريم": "أي كتاب بغيض وفظيع وملعون هذا "القرآن" .. ملئ بالأكاذيب والخرافات والفظائع .. وإن إزعاج محمد، والإضرار بالمسلمين، يجب أن تكون هي المقاصد من وراء "ترجمة القرآن" وتعرّف المسيحيين عليه" !! .
فهو يخاف "القرآن" .. ويَسُبُّه .. ويُترجمه علي النحو الذي يحقق هذا السباب المقذع ! ..
- وفي هذا الاتجاه سار الشاعر الألماني "جوته" [1749 – 1832م] .. الذي وَصَفَ "القرآن الكريم" بأنه: "الكتاب الذي يُكرر نفسه تكرارات لا تنتهي، فتُثير اشمئزازنا دائماً كلما شرَعْنَا في قراءته" !! ..
ولعلَّ في جَهْلِ هذا الشاعر بالعربية ما جعله جاهلاً بأسرار الجمال والجلال المُودَعَة في "القرآن العظيم" .. والتي رآها أهل البلاغة العربية – حتي مع كُفْرِهم – سحراً يستحيل علي المجاراة والمحاكاة والتقليد ..
وحتي الرجل، الذي جعل من رسول الله صلي الله عليه وسلم إمام العظماء –"توماس كارليل" [1795 – 1881م] نراه – لجهله بلغة "القرآن" وأسرار بلاغته والإبداع الإلهي فيه – يقول : "إن محمداً شيء .. و "القرآن" شيء آخر .. "فالقرآن" هو خليط طويل ومُمِلّ ومشوش .. جاف .. وغليظ .. باختصار، هو غباء لا يُحتمل" ..
o وهناك "الحداثيون" من الغربيين والمتغربين – الذين أدركوا عبثية الهجوم الفج والصريح علي القرآن الكريم .. وكيف أن هذا يزيد المسلمين استمساكاُ به واعتصاماُ بحبله .. فذهبوا مذهب التأويل العبثي، الذي يُفَرِّغُ القرآن من حقائق محتواه، ويحوله إلي رموز لا حقيقة فيها .. وإلي تاريخ لا صلاحيه له في الحاضر والمستقبل ..
ومِنْ أحدثِ مُخططات هذا المنهج في التعامل مع النص القرآني، التقرير الذي أَعَدَّتْهُ "مؤسسة راند" الأمريكية، التي تشير علي صانع القرار الأمريكي – سنة 2004 م – والذي نُشِرَ تحت عنوان [خطة أمريكية لإعادة بناء الدين الإسلامي] – وفيه تقسيم لتيارات الفكر في العالم الإسلامي إلي أربع تيارات:
1 - الأصوليون: الذين يرفضون قِيَمَ الثقافة الغربية المعاصرة.
2 - والتقليديون: الذين يريدون مجتمعاً محافظاً، وهم في ريبة من الحداثة والتغيير.
3 - والعلمانيون: الذين يُريدون أن يَقْبَلَ العالمُ الإسلامي الفصلَ بين الدين والدولة !.
4 - والحداثيون: الذين يُريدون العالم الإسلامي جُزءاً من "الحداثة الغربية" .. ويريدون تحديثَ الإسلام ليواكب العصر، ثم تنصح هذه الخطة صانعَ القرار الأمريكي بدعم الحداثيين؛ لأنهم ((الأكثر إخلاصاً في تبني قِيَم وروح المجتمع الغربي الحديث .. وهم – مع العلمانيين – الأقرب إلي الغرب في ضوء القيم والسياسات .. ومن بين ميادين الدعم الأمريكي المقترح لهؤلاء الحداثيين – فيما يتعلق "بالقرآن الكريم" – ((تشجيع تأويلهم "للنَّص القُرآني" – الحرفي – الذي نعتبر تاريخاً وأسطورة )) ..
لقد سَبَقَ لرئيس الوزراء الإنجليزي "غلادستون" [1809 – 1898م] أن قال: ((إننا لن نستطيع هزيمة المسلمين طالما ظلوا متمسكين بهذا القرآن)) ! ..
ولذلك، تعددت وتعدد مظاهر العداء الغربي – والمُتغرب – "للقرآن الكريم" .. وتتراوح بين الهجوم الفج .. وبين ألوان التأويل العبثي التي تُفَرَّغُ "القرآنَ" من حقائقه الخالدة .. وبين محاولات التشكيك في الحفظ الإلهي لهذا "القرآن الكريم".. لأنَّ مقاصد الهيمنة الاستعمارية الغربية هي نهب الشرق، والسيطرة علي مُقدراته .. ولأنَّ الإسلام كان ولا يزال هو الدرع والطاقة المُحَرَّكة للأمة الإسلامية للجهاد ضد هذه الهيمنة الغربية، كان عداء مُؤسسات الهيمنة الغربية – السياسية والدينية والإعلامية – للإسلام ثابتاً من الثوابت علي امتداد تاريخ هذه الهيمنة وهذا الاستعمار .. ولأنَّ "القرآن" هو ديوان الإسلام وجماع رسالته، والضابط المحفوظ والحافظ للفكر الإسلامي والمجدد لحيويته وحياته، كان نصيب "القرآن" كبيراً من هذا العداء ! ..
وفي العقود الأولي من القرن العشرين، عَمَّتْ بلوي احتلالُ الغرب للأغلبية الساحقة من ديار الإسلام، وزاد تركيز الآلة الفكرية الغربية ضد رابطة الجامعة الإسلامية، كي لا تتوحد الأمة الإسلامية، فتنهض لتحرير ديارها .. ومن ثَمَّ تجددت وتصاعدت حملات الاستشراق الغربي ضد "القرآن"؛ لأنَّه مصدر الجامعة الإسلامية، وإمام المسلمين في المقاومة والجهاد ..
ومن بين الحملات الاستشراقية التي شُنَّتْ علي "القرآن الكريم" – في تلك الحقبة – تلك التي تولَّي قيادتها عدد من المستشرقين اليهود، الذين أرادوا التشكيك في وَحْدة "النَّص القُرآني" ، والزَّعم بأنَّ المصحف الذي بين يدي المسلمين – مصحف عثمان رضي الله عنه – قد خالف في بعض الحروف والآيات والسور المصاحف التي كانت بأيدي بعض الصحابة، قبل جَمْعِ عثمان رضي الله عنه الأمة، علي هذا المصحف الواحد .. لكن هذه المحاولة، التي استنفذت جهود وأعمار عدد من هؤلاء المستشرقين، قد انهارت علي رؤوسهم، حتي لقد اعترفت "دائرة المعارف الإسلامية" – التي كتبها هؤلاء المستشرقون – بهذا الفشل والانهيار ..
فتقول عن المصير الذي انتهت إليه جهود المستشرق اليهودي "برجشتراسر" – الذي تَخَصَّصَ وتَبَخَّرَ في "القراءات الشاذة" ومن بعده المستشرق الاسترالي "جفري آرثر" انتهت – بعبارة دائرة المعارف – "إلي أنه في الثلاثينات من القرن العشرين كان المستشرقون قد جمعوا بالفغل هذه الاختلافات وحَلَّلُوها، وانتهوا إلي أنه لا قيمة لها، فانهارت الثقة فيها .. وهوت محاولة المستشرقين إصدار نسخة أخري من القرآن غير نسخة عثمان ..
لقد ظَهَرَ أن هذه المحاولة عرجاء .. بل إن المستشرق "فيشير" [1865 – 1949م] انتهي إلي أنَّ مُعظمَ الاختلافات المنسوبة لصحابة قِبَلَ "مُصحفِ عثمان رضي الله عنه" ما هي اختلافات موضوعة مكذوبة .. وَوَصَل إلي هذه الحقيقة – أيضاً – الباحث "بيرتون" في كتابه عن "جَمْعِ القرآن" – والباحث "ونسبرو" – في كتابه "دراسات قرآنية"، فقالوا: إنَّ كل – وليس بعض – الاختلافات المنسوبة إلي "مصاحف الصحابة رضي الله عنهم أجمعين" وغيرها موضوعة .. والحقيقة هي أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان قد جَمَعَ القرآن بالفعل أثناء حياته، وأنَّ القُرآن علي عهده كان مُصاغاً بشكله النهائي" ..
وهكذا سقطت الجهود الهائلة التي استغرقت عُقوداً مُتطاولة من أعمار المستشرقين اليهود، للطعن في وحدة "النَّص القرآني"، وليقولوا إنَّ ما حدث للنُّصوص الدينية الأخرى لم يسلم منه "القرآن" ! .. انهارت كل هذه الجهود .. واعترف بانهيارها ذات المستشرقين الذين كتبوا "دائرة المعارف الإسلامية" – في المادة التي كتبوها عن "القرآن" ..
وغير هذه الجهود الفاشلة التي أضاعت أعمار أصحابها، ثم انهارت مع هلاك هذه الأعمار .. كانت هُناك حملة غربية أخري حاول أصحابها – المستشرقون – إثبات أن "القرآن" ليس سوي هرطقات واستعارات من اليهودية والنصرانية ..
* - بقلم العالم الجليل، أ. د. محمد عمارة – عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف (حفظه الله) ..
مقالات ذات صلة
-
الاِسْتِشْرَاق .. تَعْرِيفه شخصِيَّاته وَخَلْفِيَّاته، أفْكَاره ومُعْتَقَدَاته، أَهْدَافه وَغَايَاته، آثَاره ومَطْبُوعَاتِه، دَوْرهِ فِي خِدْمَةِ الاسْتِعْمَار - (6)
الانتشار ومواقع النفوذ: * - الغرب هو المسرح الذي يتحرك فوق أرضه المستشرقون، فمنهم الألمان ومنهم البريطانيون والفرنسيون والهولنديون والمجريون،…
الثلاثاء 4 محرم 1444 هـ 02-08-2022 م -
الاِسْتِشْرَاق .. تَعْرِيفه شخصِيَّاته وَخَلْفِيَّاته، أفْكَاره ومُعْتَقَدَاته، أَهْدَافه وَغَايَاته، آثَاره ومَطْبُوعَاتِه، دَوْرهِ فِي خِدْمَةِ الاسْتِعْمَار - (5) ..
* - آراء استشراقية خطرة: - جورج سيل G.Sale زعم في مُقدمة ترجمته لمعاني القرآن 1736م، أنَّ القُرآن إنما هو…
الاثنين 26 ذو الحجة 1443 هـ 25-07-2022 م -
الاِسْتِشْرَاق .. تَعْرِيفه شخصِيَّاته وَخَلْفِيَّاته، أفْكَاره ومُعْتَقَدَاته، أَهْدَافه وَغَايَاته، آثَاره ومَطْبُوعَاتِه، دَوْرهِ فِي خِدْمَةِ الاسْتِعْمَار - (4 - 6)
* - أهم مُؤلفات المستشرقين في التراث العربي الإسلامي: 1 - تاريخ الأدب العربي: كارل بروكلمان ت 1956م. 2 -…
السبت 24 ذو الحجة 1443 هـ 23-07-2022 م