ترجمَه القرآن الكريم بين من يَمنعهَا؟ ومَن يُوجبهَا علي الأمّة؟ .. بقلم فضيلة العلاَّمة الشيخ محمد محمد المدني (رحمه الله) من عُلماء الأزهر الشريف ..

ترجمَه القرآن الكريم بين من يَمنعهَا؟ ومَن يُوجبهَا علي الأمّة؟ .. بقلم فضيلة العلاَّمة الشيخ محمد محمد المدني (رحمه الله) من عُلماء الأزهر الشريف ..

 

تكلم الناس قديماً وحديثاً في هذا الموضوع، وكثر الجدال فيه ولا سيَّما في عصرنا الحاضر ..

وهناك فريقان:

فريق: يري أن الترجمة غير جائزة شرعاً، بل غير ممكنة ..

وفريق: يري عكس ذلك فيقول إنها جائزة، بل واجبة علي المسلمين وجوباً كفائياً، أي انها مصلحة عامة للإسلام والمسلمين؛ فيجب علي مجموع الأمة أن تعمل علي حصولها وتمامها، والا كانت مُقصرة آثمة ..

 

وليس من سبيلنا في هذا المقال أن نستوعب جميع الأدلة التي أتي بها كل فريق من هذين الفريقين، ولا أن نعني عناية تفصيلية بما ورد به كل فريق علي مخالفيه، لأننا لو فعلنا ذلك لطال الأمر وثقل علي القُرَّاء، فتكتفي بأن نعرض في شيء من القصد للأُسس التي قام عليها هذا الجدل من الجانبين، ثم نُبدي رأينا، والله المستعان:

أولاً: الأسس التي انبني عليها رأي المانعين:

أن هؤلاء الذين يمنعون ترجمة القرآن يستندون الي ما يأتي:

(1) - القرآن عربي، وهذه حقيقة يُقررها القرآن نفسه؛ فيقول: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الزخرف: 3]، و (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الزمر: 28] ، و (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) [الزخرف: 43 – 44]، و (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ...الآية) [فُصلت: 44)] ... إلي غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تُقرر أنَّ القرآن هو ذلك اللفظ العربي المنزل علي سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم، فهم يقولون لو تُرجم القرآن الي لغة أخري لم يُصبح قُرآنا؛ لأن كونه عربياً جزء من مفهومه، أي ركن من أركان حقيقته ..

 

(2)- ثم أن الترجمة الصحيحة التي تُؤدي معني القرآن تمام الأداء غير مُمكنة؛ لأنه إن تُرجم ترجمة حرفية بمعني أن ينقل كل لفظ عربي الي المقابل له من اللغة الأجنبية، كانت هذه الترجمة ركيكة ضعيفة، ولم تُؤد المعاني المقصودة من القرآن، فيضيع جمال اللفظ العربي، وجمال المعني، بل تضطرب المعاني اضطراباً شديداً ..

 

 وإن تُرجم دون ملاحظة للألفاظ، بل أُخذ المعني من الجملة وصيغ في قالب من اللغة الأخرى،  فإن ذلك غير ممكن أيضاً؛ لأنَّ القرآن في اللفظ العربي يُفهم بأوجه متعددة، والمترجم طبعاً سيختار وجهاً من هذه الأوجه ويؤديه باللغة الأجنبية، فتضيع الأوجه الأخرى،  وبعبارة أخري يقولون: إن للقرآن معاني كثيرة، وهو تنزيل من حكيم حميد، فلا يمكن لمخلوق – مهما برع في اللغة العربية واللغة الأجنبية – أن يحيط بجميع معانيه فيترجمها ..

 

(3) - ثم إن هذا الشيء لم يفعله النبي صلي الله عليه وسلم ولا أصحابه،  ولا أهل الصدر الأول من المسلمين، ولو كانت الترجمة جائزة لفعلوها،  وقد أرسل النبي صلي الله عليه وسلم كُتباً الي الملوك، وكان منها مثلاً  كتابه الي هرقل ملك الروم، وهذا نصه – وفيه آية قرآنية –: (من محمد رسول الله الي هرقل عظيم الروم: سلام علي من اتبع الهدي. أمَّا بعد فاني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تَسْلَم يُؤتك الله أجرك مرتين، فان توليت فإنما عليك اثم الأريسيين – أي العامة والدهماء من القوم – و  (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [سورة آل عمران: 64]، فرسول الله صلي الله عليه وسلم ضَمَّن كتابه هذا – وكذلك كُتبه التي أرسلها الي كسري والمقوقس والنجاشي – هذه الآية من سورة آل عمران، ولو كانت ترجمة القرآن جائزة لأرسل الكُتُبَ اليهم بلغاتهم، وترجم هذه الآية في كل كتاب أرسله بلغة صاحبه ..

 

(4) - ثم انه يترتب علي ترجمة القرآن مفاسد كثيرة:

منها:- أن الترجمات قد لا تتفق فيقع لنا ما وقع لغيرنا من أهل الأديان الأخرى، كاختلاف نُسخ التوراة السامرية والعبرانية واليونانية ..

 

ومنها:- أنَّ الناس يكتفون بلغاتهم ولا يُجِدُّون في تعلم اللغة العربية، وهي لغة الدين الاسلامي، وبذلك تضعف هذه اللغة شيئاً فشيئاً بقلة أهلها وربما انقرضوا، فيضيع القرآن العربي وتبقي الترجمات، وفي ذلك من الخطر علي كيان الأمة العربية، وكيان الدين الاسلامي ما هو ظاهر لا يحتاج الي تطويل ..

والتاريخ يدلنا علي ذلك فإن تمسك السابقين بهذا القرآن عربياً، حمل الأمم الأخرى علي تعلم لغة العرب، فكان لذلك فائدة كُبرى، وها هي ذي مصر وأخواتها العربيات كالعراق والشام وتونس والجزائر والمغرب الأقصى،  قد تعلمت اللغة العربية وصارت مهداً لها في عصرنا الحاضر، ولولا ذلك لبقيت مصر علي اللغة القبطية، أو الرومية، والعراق علي الفارسية وهكذا، ولكان هذا نكبة علي العروبة والاسلام ..

هذا أهم ما استند اليه المانعون ..

 

ثانيا: الأسس التي انبني عليها رأي المجيزين:

إنَّ هؤلاء يستندون الي ما يأتي:

(1) - القرآن تبليغ عن رسول الله صلي الله عليه وسلم، وهو الذي نزل عليه قوله تعالي: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة: 67] والنبي صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ العرب بلسانهم، ويجب علي العرب أن يُبلِّغُوا غيرهم من الأمم نيابة عنه، ولذلك صح عنه أنه قال في خطبة الوداع: ((فليبلغ الشاهد منكم الغائب)) ..

ورسالته صلي الله عليه وسلم عامة لجميع الأمم، وما يدل علي ذلك قوله تعالي: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]، (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) [الأنعام: 19]، ومن قول رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((كان النبي يُبعث الي قومه خاصة، وبُعثت للناس عامة)) ..

 

ولا يُمكن تبليغ جميع الأمم إلاَّ بالترجمة للغاتهم، واذا انتظرنا حتي يتعلموا اللغة العربية ثم يفهموا القرآن بها لانتظرنا قروناً طويلة، ومع ذلك لا نضمن النتيجة، وإذن فلا بد من ترجمة القرآن بلغات هذه الأمم ليتم ما نحن مُكلفون به من التبليغ، والاَّ كانت الأمة مُقصرة مُضيعة واجبها ..

 

(2) - النبي صلي الله عليه وسلم كتب إلي الملوك باللسان العربي، اعتزازاً بلغته، وهم قد ترجموا كُتبه، وفيها تلك الآية التي تقدم ذكرها، فإرسالها إليهم فيه اشعار بالإذن بترجمتها ..

وفي ذلك يقول الإمام البخاري: ((قال ابن عباس رضي الله عنهما: أخبرني أبو سفيان بن حرب أنَّ هرقل دعا تُرجمانه، ثُمَّ دعا بكتاب النبي صلي الله عليه وسلم فقرأه .. الخ)) ..

ويقول شارحه ابن حجر في كتابه فتح الباري: ((أنَّ النبي صلي الله عليه وسلم كتب الي هرقل باللسان العربي، ولسان هرقل رومي، ففيه إشعار بأنه اعتمد في إبلاغه ما في الكتاب علي من يُترجم عنه بلسان المبعوث اليه ليفهمه، والمترجم المذكور هو الترجمان، وكذلك وقع، بل الحديث واضح الدلالة في جواز ترجمة القرآن لغير العربية؛ لأن كتاب النبي صلي الله عليه وسلم مُشتمل علي آية قُرآنية؛ وهي: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ ... الآية)، وقد كتب بها للنجاشي ملك الحبشة أيضاً، ولملك الفرس، ولهرقل، وكلهم أعجمي لا يعرف العربية، فهو إذن منه عليه الصلاة والسلام في ترجمتها للغات المذكورة كلها، وقد جاء في الصحيح عن أبي سفيان بن حرب أنَّ هِرقل لما جاءه الكتاب أحضر تُرجُمانه، وما جاز في آية واحدة جاز مثله في بقية القرآن العظيم)) ..

 

(3) - أنَّ ما يفعله المفسرون ما هو إلاَّ ترجمة للقرآن، وذلك أن مُفسر القرآن الكريم يفهم المعني من النص القرآني، ثُمَّ يُعبر عنه بعبارة من عنده،  فإذا جاز للمفسرين أن يفعلوا ذلك فلماذا لا يجوز للمترجمين؟ وما الترجمة إلاَّ تفسير، وما التفسير إلَّا ترجمة، ولذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما يُلَقَّب بتُرجمان القُرآن، وبعض المسلمين فسَّر القرآن بالفارسية، وكل الأمم التي دخلت في الاسلام من أهل الهند والصين والتُرك كانوا يفهمون القرآن وما فيه من هدي وتشريع ووعظ وقصص بلغاتهم ..

 

(4) - أنَّ بعض العلماء المتقدمين قد أجاز ترجمة القرآن، ومنهم الإمام الزمخشري [المتوفي سنة: (528)هـ] حيث يقول في كتابه [تفسير الكشَّاف]، وهو يفسر قوله تعالي: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم: 4]:

((فإن قلت لم يُبعث رسول الله صلي الله عليه وسلم للعرب وحدهم، وإنَّما بُعث إلي النَّاس أجمعين، بل إلي الثقلين، وهي علي ألسنة مُختلفة، فإن لم تكن للعرب حُجة علي الله لفهمهم القرآن بلغتهم، فلغيرهم من الأعاجم الحجة، قُلت: لا يخلو: إمَّا أن ينزل بجميع الألسنة، أو واحد منها، ولا حاجة لنزوله بجميع الألسنة؛ لأنَّ الترجمة تنوب عن ذلك، وتكفي التطويل، فبقي أن ينزل بلسان واحد، فكان أولي الألسنة لسان قوم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّهم أقرب إليه، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتُنُوقل عنهم وانتشر, قامت التراجم ببيانه وتفهيمه، كما نري الحال ونُشاهدها في كل أمة من أمم العجم)) ..

 

ومنهم الامام أبو اسحق الشاطبي المالكي [المتوفي سنة (790) هـ]، إذ يقول في كتابه [الموافقات – في أصول الاحكام]:

((أَنَّ للكلام العربي دِلالتين)):

أحداهما: أصلية، وهي الدلالة علي المعاني الأوَّلية، وهذه تشترك في أدائها جميع الألسنة، ولا تختص بأمة دون أخري ..

ثانيتهما: ثانوية، وهي التي تقيد معاني وراه النسب الأصلية .. وتختص هذه بلسان العرب ومزاياه)) ..

ثم استأنف فصلا آخر قال فيه : ((وإذا ثبت هذا فلا يمكن من اعتبر هذا الوجه الأخير أن يترجم كلاماً من الكلام العربي بكلام العجم علي أي حال، فضلاً عن أن يترجم القرآن، وينقله الي لسان غير عربي، وقد نفي ابن قتيبة امكان الترجمة في القرآن – ويعني علي هذا الوجه الثاني – فأما علي الوجه الأول ((الدلالة الأصلية)) فهو ممكن، ومن جهته صح تفسير القرآن، وبيان معناه للعامة ومن ليس له فهم يَقْوَي علي تحصيل معانيه، وكان ذلك جائزاً باتفاق أهل الاسلام، فصار هذا الاتفاق حجة في صحة الترجمة علي المعني الأصلي)) ..

ومن هذا النص يتبين أن الامام الشاطبي يُفرق بين ((المعاني الأصلية)) و ((المعاني الثانوية)) فيقرر أن: الأولي يمكن ترجمتها الي اللغات الأجنبية، وأنها من هذه الجهة لا تعدو أن تكون تفسيراً  كالتفسير العربي، الذي يبين به القرآن للعامة ومن ليس له فهم يَقْوي علي تحصيل معانيه، أما ترجمة ((المعاني الثانوية)) فغير مُمكنة في أي كلام عربي، فضلاً عن القُرآن، وهذا هو الذي يريده ابن قتيبة حين نفي امكان الترجمة ..

 

وبهذا يتمسك المجيزون للترجمة، ويقولون: أننا لم نزعم أن الترجمة يجب أن تكون طبق الأصل تماماً، فإن ذلك لا يقول به أحد، وأن المعاني الثانوية التي يفيدها النظم كثيرة ودقيقة حقاً، ولكن ليسع المترجمين ما يسع المفسرين، فكما أن أساس عمل المفسر هو استخلاص ما يمكنه من الأصل والتعبير عنه بعبارة غير عبارة القرآن، كذلك الشأن في المترجم،  فالمعني القرآني يستخلص من عبارة القرآن بحسب الطاقة وقواعد الفهم من اللغة العربية، ثم يُؤدي هذا المعني الذي فهم بعبارة اللغة الأخرى، وإذا جاز الصنيع الأول – وهو التفسير – فلا بد من الحكم بجواز مثله – وهو الترجمة – والا َّكان ذلك تحكماً ..

 

(5) - قد أجاز الامام أبو حنيفة رضي الله عنه قراءة القرآن في الصلاة بالفارسية لمن عجز عن قراءته بالعربية، وكان يقول أولاً بجواز ذلك ولو لغير العاجز، ولكنه عدَّل رأيه فيما بعد، فأصبح يُجيز ذلك للعاجز فقط، يدل علي ذلك ما جاء في كتاب [مُسَّلم الثبوت وشرحه]؛ اذ يقول: (( وقد صح رجوع أبي حنيفة عن القول بجواز الصلاة بالفارسية بغير عذر، وفيه إشارة الي أنه يجوز القرآن بالفارسية للعذر، وهو عدم العلم بالعربية، وعدم انطلاق اللسان بها، وهو الصحيح، وعليه الصاحبان، إقامة للمعني مقام النظم لأجل العذر)) ..

وجاء في [شرح الكنز للزيلعي]: ((وأما القراءة)) بالفارسية في الصلاة فجائزة في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا تجوز إذا كان يُحسن العربية)) ..

 

هذه خُلاصة الرأيين المتعارضين، وصفوة ما ذكر من الأدلة التي احتج بها كل من الفريقين ..

ونحن نستطيع بعد هذا أن نقرر ما يأتي:

أولا:-  ليس هناك خلاف في أنَّ الترجمة الحرفية إذا أريد بها وضع كلمة أجنبية موضع كلمة عربية مع التزام الترتيب العربي، من شأنها أن تُفسد الكلام ..

وإذن فليخرج هذا النوع من البحث، فليس هناك من يقول به أو يراه مُمكنا ..

 

ثانيا:- إذا أريد بالترجمة الحرفية ما عبَّر عنه الشاطبي بترجمة المعاني الأصلية دون التعرض للمعاني الثانوية، فإنَّ الترجمة حينئذ مُمكنة مقدورة وفي المعاني الأصلية ما يكفي للهداية بالقرآن، وتبليغه الي الأمم الأخرى ..

والإمام الشاطبي –رحمه الله- يُقرر هذا في ثقة ويحكم بأنه أمر مُجمع عليه، ويجعله شبيهاً بالتفسير ..

 

ثالثا:-  لا خلاف بين المسلمين في أنَّ ترجمة القرآن لا تكون قرآنا، لأن القرآن اسم للنظم والمعني جميعاً، وليس اسماً للمعني فقط علي ما بيناه في بحث آخر ..

 والمجيزون للترجمة لا يقولون إنها تُغني عن اللفظ العربي، أو تحل محله في الاستنباط والرجوع اليه عند الاختلاف، ولا يقول أحد منهم أنَّ هذا المُتَرْجَمُ هو كلام الله، ولكن يقولون هو المعني الذي فهمه صاحب الترجمة من كلام الله،  كما يُقال في التفسير هذا ما فهمه المفسر الفلاني، والمحظور هو أن نُفْهِمَ المُتَرْجَم لهم أو المُفَسَّر لهم أن هذه المعاني المترجمة أو المفسرة هي مُراد الله تعالي قطعاً،  وهذا أمر متفق عليه بين الفريقين ..

 

رابعا:-  إن الفريقين متفقون علي وجوب تبليغ القرآن للأمم كلها، غير أن من لا يُجيز الترجمة يطلب من المسلمين الذين لا يعرفون العربية أن يتعلموا العربية ليعرفوا القرآن بلغته، ويري أن بذل القرآن للمسلمين أو غير المسلمين من أهل اللغات الأخرى فيه تعويق للغة العربية، وأن الاحتفاظ بالقرآن عربياً من شأنه أن يجلب الناس الي تعلمها ..

هذا ما يقوله الذين لا يجيزون الترجمة، أما معارضوهم فيرون أن هذا أمل حُلو، ولكن الطمع في تحققه طمع في شيء بعيد، ولا سيَّما في عصرنا الحاضر، فمن ذا الذي يتصور بسهولة أن ينتقل أهل أوربا أو أمريكا أو غيرهما إلي اللغة العربية، أو يهتموا بدراستها دراسة تعم جمهورهم وتُمكنهم من فهم القرآن بها،  وهل فعل ذلك أهل فارس أو أهل تركيا أو اندونيسيا في يوم ما مع أنهم اعتنقوا الاسلام واخلصوا له ؟ ..

 

فهم يقولون: إن الاخلاص لمبادئ الاسلام وأحكامه والحرص علي تبليغهما بترجمة القرآن هما الغرض الأول والأَوْلَى، أما اللغة العربية ونشرها فذلك غرض حسن، ولكنه يأتي في المرتبة الثانية، فلا يصح أن يعوق ما هو أول وأولى، ليُقَدَّم ما هو ثانوي بالنسبة له ..

 

خامسا:-  إن كثيراً من العلماء قديماً وحديثاً قد أجازوا ترجمة القرآن، وإن كثيراً من المسلمين في مختلف الشعوب، وفي حقب التاريخ المتتابعة قد ترجموا القرآن فعلاً، ولم يحدث من ذلك ضرر علي القرآن ولا علي الاسلام، وكذلك ترجم القرآن من غير المسلمين، وهناك عشرات من الترجمات في مختلف اللغات تعج بها مكتبات العالم الغربي والأمريكي، فليس من الرأي أن نغمض أعيننا عن هذا الواقع تخوفاً مما يُتَخَوَّف منه المانعون ولا مُبرر للتخوف منه ..

 

والنتائج التي تستطيع أن نأخذها من هذا كله ومن غيره هي:

[1] -  أن ترجمة القرآن الكريم مُمكنة علي أن تؤخذ المعاني التي تفهم من كل آية فتنقل الي اللغة الاخرى بأسلوبها ..

 

[2] -  أنه يجب النص في مقدمة التراجم علي أن هذه الترجمة إنما هي فهم أصحابها للقرآن، وأن النص العربي هو الذي عليه المعول، وهو القرآن وحده ..

 

[3] - أنه – زيادة في توضيح ذلك، ورعاية لما يشترطه كثير من العلماء المجيزين للترجمة – يحسن أن تكون الترجمة مُنضمة الي القرآن نفسه في كل صفحة من صفحاتها، حتي يشعر قارئها بأنه إنما يقرأ كلاماً مُترجماً، وحتي نقطع السبيل علي من يُحاول جعل الترجمة أساساً يُغني عن الاصل ..

 

[4]- أننا نُقر فكرة المجيزين للترجمة، في أن هذا فرض كفاية علي المسلمين، يجب علي ولاة أمورهم أن يفعلوه، فإن قَصَّروا فيه كانوا مُقصرين في مصلحة عامة من مصالح الدين ..

 

* - بقلم فضيلة العلاَّمة الشيخ محمد محمد المدني (رحمه الله) من عُلماء الأزهر الشريف ..

 

*  - المصدر: مجلة الرسالة المصرية: [عدد: 13 ديسمبر 1963م - رقم: (1040)] ..