حاجتنا ماسَّة إلى القُرآن؛ للعلاَّمة الشيخ مُعوض عوض إبراهيم، من عُلماء الأزهر الشَّريف –(رحمه الله)

حاجتنا ماسَّة إلى القُرآن؛ للعلاَّمة الشيخ مُعوض عوض إبراهيم، من عُلماء الأزهر الشَّريف –(رحمه الله)

 

حاجتنا ماسَّة إلى القُرآن؛ للعلاَّمة الشيخ مُعوض عوض إبراهيم، من عُلماء الأزهر الشَّريف –(رحمه الله)

 

إن حاجة البشرية بأسرها، وحاجة المسلمين بخاصة إلى القرآن الكريم ضرورية ماسة أكثر من ضرورة الكائن الحي للغذاء، وعناصر البقاء؛ فالقرآن مصدر الحياة والحيوية والنماء والازدهار والأمن والاستقرار، ولا تطلب هذه المقومات الكبرى إلا من هدايات الله وتوجيهه في كتابه ..

((ومن التمس الهدى في غير هذا أضلَّه الله))، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن مبالغًا ولا جاوز مشارع الصواب قيد شعرة الصحابي الجليل ابن مسعود حين قال: ((لو ضاع مني عِقال بعير لوجدته في كتاب الله)) ..

 

فالمؤمن حين يعتصم بحبل الله ويلتزم آياته، يُعطى بذلك الدليل على أنَّه رضى بالله ربًا ووليًا وحافظًا وهاديًا، وهو مُرتقى يمنحه الله عند ولايته له وعنايته به وتدبيره لأموره (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) ..

وفي الحديث القدسي: ((فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ)). [صحيح البخاري؛ برقم: (6164)] ..

 

يجد الصحابي في كتاب الله تعالى كل ما فاته وضاع منه؛ لأن القُرآن يدعوه إلى العمل قرين الإيمان وينهاه عن الإثم والعصيان ويكون لسانه به رطباً وقلبه رحبًا ورضاه بالله وعن الله إن أعطى وإن أخذ، وإن ابتلى وإن عافى، ثمرة يقين بأن الله أرحم بعباده من والدة بولدها، وإنَّ رحمة الله قريبٌ من المحسنين، ومن أوفى بعهده من الله وهو يقول: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153).[سورة البقرة] ..

ومعية الله للصابرين، وللمحسنين وللمتقين، ولمن تحركت شفاههم بالقرآن انفعالاً بقلوب استضاءت بنوره، وهى غاية حفظه وفيض توفيقه، وماطر كرمه ونداه، وفي الحديث القدسي: (أَنا مَعَ عبدي إذا مَا ذَكَرَني وتحرَّكَتْ بي شَفَتاهُ).[صحيح ابن حبان؛ برقم: (815)، وصحيح سنن ابن ماجة؛ برقم: (3074)] ..

 

وفيما أوحى إلى بعض أنبيائه: (إن كان عبدي في طاعتي أعطيته قبل أن يسألني وأجبته قبل أن يدعوني، وأنا أعلم بحاجته التي ترفق به من نفسه).[عُدَّة الصَّابرين،  للإمام ابن القيم: (ص: 132)]  ..

والمؤمن بذلك لا يكون وحده، والله معه ولا يكون سلبيًا بل إيجابيًا فعالاً فيما حوله ومن حوله، وهو ينطلق من القُرآن والسُّنَّة لإعلاء صرح مُجتمعه مع مؤمنين يشمرون في ميدان الاستخلاف الباقي والقرآن يهتف بهم: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).[الجمعة: (10)] ..

ويمتن الله علينا وعلى النَّاس بمثل قوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).[الملك: (15)] ..

 

العزَّة الحقَّة:

ولا يكون المؤمن عبد شهوة ولا أسير نزوة، ولا مُنطلقًا من مُجرد هوى نفس ناكبة عن الرُّشد، ولكنَّه يكون أبداً عبد ربه، ويُؤثر على هواه هُدى الله، ويدع اللَّذة التي يبلغها في الخلاف عن أمر الله للذَّة دائمة تبدأ منذ انتصر على نفسه، فحجزها عن المعاصي، فيُورثه الله بذلك إيمانًا يجد حلاوته في قلبه، وتلك هي العزة الحقة، والقوة البشرية الخارقة وأول النصر أن ننتصر على أنفسنا فنجد موعود الله تعالى في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).[محمد: (7)] ..

 

وفي الأثر الذي أورده الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله في (إغاثة اللهفان): "إن الذي يُخالف هواه يفرق الشيطان من ظله"، وصدق الله العظيم: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ).[المنافقون: (8)] ..

ويقول: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُور).[فاطر: (10)] ..

والآية بدون خفاء، تُبرز وسائل العزة، وتُحدد مداخل القوة والمنعة، فلا سبيل إلى شيء من ذلك على الحقيقة إلا بالله، ومن الله، عن طريق ما شرع لنا من صالح القول وخالص العمل. ورحم الله من قالوا: (إنَّ ما عند الله من خيره وبركته لا يُنال إلا بطاعته) ..

 

إنَّ تأمل قوله تعالى: (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) يُؤكد حصره العزة كلها، وجعلها شأن الله وحده، وهذا إبليس اللَّعين، يعلم أنَّ عزة الله أعلى شُئونه فيُقسم بقوله: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ).[سورة ص: (82)] ..

ومن أراد العزة فليطلبها ممن يملكها، بوسائلها في شرعه وأمره تبارك وتعالى، وهذا الذي يتعزز به البعض من مال وحسب ونسب وسلطان وأعوان هو ظاهر من القول ومتاع الغرور وفي دعاء القنوت: ((إنَّهُ لا يذلُّ من واليتَ، ولا يعزُّ من عاديتَ))[صحيح سنن أبي داوود؛ برقم: (1452)].، والحسن البصري يقول: (أبى الله إلا أن يذل من عصاه) ..

 

وأفضل القول كتاب الله، والعمل الصالح به، لكتاب الله شأنه والعمل الصالح قرين الإيمان وثمرته، ومُراد الله ممن استخلصهم لنفسه، وكتب لهم الفلاح، ووراثة الفردوس والخلود فيه يوم يقوم الناس لرب العالمين ..

قال تعالى: ((إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ (92).[سورة النَّمل] ..

 

فتلاوة القرآن في هذا السياق، بين أوامر الله لمصطفاه، شاهد لا يدفع على فضل القرآن وتقديم ذكر الله به على ما سواه؛ ففي القرآن ذكر، وفي القرآن مجال تدبر وفكر، وفي القرآن شفاء لما في الصدور، وشفاء للأجسام نفسها حين تتطهر الأرواح وتتزكى عن الدَّنس، وتدع ما حرم الله من طعام وشراب, وشهوات غير مشروعة فتصح وتسلم وتقوى على تكاليف الإيمان والحياة مع هدايات القرآن، والمؤمن يحرص على أن يكون على نهج الإسلام وهو يقرأ في كتاب الله صفات المسلمين وصفات عباد الرحمن وصفات المؤمنين حقا: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).[الأنفال: (3)] ..

 

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17).[سورة الحديد] ..

 

حياة للقلوب:

لقد بيَّن الله- وله الفضل والمنة- بما لا مذهب لمتصف عنه، أنه سبحانه كما يحيى الأرض بعد موتها بالماء، فتهتز بالزرع، وتسخو بما ينفع الناس، فهو يُحيى القلوب القاسية، والأفئدة المتمردة الجاسية، بالإيمان الذي تفيضه علينا تلاوة القرآن الذي أمر الله به مصطفاه: (وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ).

 

أجل كان صلوات الله عليه يتلو القرآن حق تلاوته، حتى قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في جواب من سألها عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان خُلُقُه القُرآن). أحقَّ الرسول حقه، وأبطل ما أبطله، ودعا به إلى الله الذي قال: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)، (وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ)؛ أي لئلا تهلك بسوء عملها ..

 

وتجاوبت نفس النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن علمًا وعملاً، وكان قُدوة لصحابته رضوان الله عليهم أجمعين، فلقد علمت أن أبا بكر كان بَكَّاءً بالقرآن، وهذا عمر رضوان الله عليه يقول: ((اللهم ارزقني التفكير والتدبر لما يتلوه لساني من كتابك، والفهم له، والمعرفة لمعانيه، والنظر في عجائبه، والعمل بذلك ما بقيت، إنك على كل شيء قدير)) ..

وكلام أبي الحسن على بن أبى طالب رضي الله عنه عن القرآن، ومأثرة عثمان بالمصحف الإمام، والتزام قراءته حتى في اللحظات التي لقى الله فيها، وكلام ابن مسعود، وابن عباس، ومن لا يُحصى من هؤلاء الأبرار، إيماءة سريعة إلى ارتباطهم بالقرآن ..  

فهل يلزم الخلف سبيل السلف وَاعِين؟ ..

-------------

  • - المقال بقلم: فضيلة العلاَّمة الشيخ معوض عوض إبراهيم، من عُلماء الأزهر الشَّريف – (رحمه الله) ..