تفاصيل المقال

وقفات إيمانية مع آيات الصيام في القُرآن الكريم –(6 - 6)-  للعلامة الشيخ محمد متولي الشعراوي (رحمه الله) ..

وقفات إيمانية مع آيات الصيام في القُرآن الكريم –(6 - 6)- للعلامة الشيخ محمد متولي الشعراوي (رحمه الله) ..

 

ويُتابع الحق سبحانه وتعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)، لقد كانوا يفهمون أن المباشرة في الليل حسب ما شرع الله لا تُفسد الصوم .. ولكن كان لابد من وضع آداب للسلوك داخل المسجد، أو لآداب سنة الاعتكاف التي سنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في العشر الأواخر من رمضان؛ لهذا أوضح الحق أن حلال المباشرة بين الرجل وزوجته هو لغير المعتكف، وفي غير ليل رمضان. أما المعتكف في المسجد، فذلك الأمر لا يحل له ..

 

 ومعنى "الاعتكاف" هو: أن تحصر حركتك في زمن ما، على وجودك في مكان ما، ولذلك يقولون: «فلان مُعتكف هذه الأيام» أي حبس حركته في زمن ما، في مكان ما، وليس معنى ذلك: أن الاعتكاف مقصور على العشر الأواخر من رمضان فقط، ولكن للمسلم أن يعتكف في بيت الله في أي وقت ..


واختلف العلماء في الاعتكاف؛ بعضهم اشترط أن يكون المرء صائماً حين يعتكف، واشترطوا أيضاً: أن يكون الاعتكاف لمدة مُعينة، وأن يكون بالمسجد، وقالوا: إن أردت الاعتكاف، فاحصر حركتك في مكان، هو بيت الله ..


وكثير من العلماء يقولون: إنَّك إذا دخلت المسجد، تأخذ ثواب الاعتكاف مادمت قد نويت سنة الاعتكاف؛ بشرط ألا تتكلم في أي أمر من أمور الدنيا؛ لأنَّك جئت من حركتك المطلقة في الأرض، إلى بيت الله في تلك اللحظة، فاجعل لحظاتك لله؛ ولذلك: حينما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، ((رجلاً ينشد ضالته في المسجد -أي شيئاً قد ضاع منه- فقال له: "لا ردَّها الله عليك، فإنَّ المساجد لم تُبْنَ لهذا" ..

  
لماذا؟ لأنَّ المسجد مكان للعبادة، ولذلك أقول لمن يُحدثني في المسجد بأي شيء يتعلق بحركة الحياة: «أبشر بأنها لن تنفع»؛ لأنك دخلت المسجد للعبادة فقط، إن لحظة دخولك المسجد، هي لحظة جئت فيها لتقترب من ربك وتُناجيه، وتعيش في حضن عنايته، فلماذا تأتي بالدُّنيا معك؟ وليكن لنا في أحد الصحابة قدوة حسنة؛ كان يقول: ((كُنا نخلع أمر الدنيا مع نعالنا))، وزاد صحابي آخر، فقال له: ((وزد يا أخي، أننا نترك أقدارنا مع نعالنا)) ..


انظر إلى الدِّقة، إنَّ الصَّحابي المتبع لا يخلع الدنيا مع نعله فقط على باب المسجد، ولكن يخلع أيضاً قَدْرَهُ في الدُّنيا .. فيمكن أن تأخذك الدنيا ساعات اليوم الكثيرة، والمسجد لن يأخذ منك إلا الوقت القليل، فَضَعْ قَدْرَك مع نعلك خارج المسجد، وادخل بلا قَدْر، إلاَّ قَدْرَ إيمانك بالله. وأجلس في المكان الذي تجده خالياً .. فلا تَتَخَطَّ الرِّقاب لتصل إلى مكان مُعَيَّن في المسجد .. فأنت تدخل بعبودية لله، وقد يأتي مجلسك بجانب من يخدمك، والصغير يقعد بجانب الكبير، ولا تلحظ لك قَدْراً إلاَّ قَدْرَكَ عند الله ..


إنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يجلس حيث ينتهي به المجلس؛ أي عندما يجد مكاناً له، وهذا خلاف زماننا حيث يَحجز إنساناً مكاناً لإنسان آخر بالسِّجادة، وقد يدخل إنسان ليَتَخطَّى الرِّقاب، ويجلس في الصف الأول، وهو لا يعلم أن الله قد صَفَّ الصفوف قبل أن يأتي هو إلى المسجد ..

 وما دُمنا سنترك أقدارنا فلا تقل أين سأجلس، وبجوار مَنْ؟ .. بل اجلس حيث ينتهي بك المجلس، ولا تَتخطَّ الرقاب .. وانو الاعتكاف، ولا تتكلم في أي أمر من أمور الدنيا، حتى لا تدخل في دعوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بألا يُبارك الله لك في الضَّالَّة التي تنشدها وتطلبها ..


وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعتكف في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فهل معنى ذلك أن الاعتكاف لا يصح إلاَّ في المساجد؟، لا؛ إنَّ الاعتكاف يصح في أي مكان، ولكن الاعتكاف بالمسجد هو الاعتكاف الكامل؛ لأنك تأخذ فيه بالزمان والمكان معاً ..


قوله تعالى: (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا)، ومعنى «الحد» هو الفاصل المانع من اختلاط شيء بشيء، وحُدود الله هي محارمه. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: ((... ومَنْ وقع في الشُّبُهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يُوشك أن يُواقعه، ألا إنَّ لكل ملك حمى، ألا وإنَّ حمى الله تعالى في أرضه محارمه)) ..


إذن فالمحارم هي التي يضع الله لها حداً فلا نتعداه .. ولنا أن نلحظ أنه ساعة ينهى الله عن شيء فهو يقول: (فَلاَ تَقْرَبُوهَا) وساعة يأمر بأمر يقول سبحانه: (فَلاَ تَعْتَدُوهَا) .. وفي ذلك رحمة من الله بك أيّها المُكَلَّف ..


فلا تجعل امرأتك تأتيك وأنت في معتكفك، فقد تكون جميلة، صحيح أنَّك لا تنوى أن تفعل أي شيء، لكن عليك ألا تقرب أسباب النواهي، ومثال ذلك تحريم الخمر، لقد أمر الحق باجتنابها؛ أي ألا تقرب حتى مكان الخمر؛ لأن الاقتراب قد يُزين لك أمر احتسائها، إذن فلكي تمنع نفسك من تلك المحرمات، فعليك ألا تقرب النواهي. وفي الأوامر عليك ألا تتعداها ..


ويُذَيِّل الحق الآية بقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)؛ والآيات هي العجائب، وكل آية هي شيء عجيب لافت، لذلك نقول: هذه آية في الحسن، وتلك آية في الجمال، وقد تُطلق الآية أيضاً على السِّمَة؛ لأنَّ السِّمَة أو العلامة؛ هي التي تلفتنا إلى الشيء، فيكون ما جاء بالآية داخلاً في معنى قوله الحق: (تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ..

 

ولقد أوضحت هذه الآية، والآيات السابقة عليها، تشريعات الصيام، والاستثناء من التشريع. رفعاً للحظر، ودفعاً للمشقة بعد أن تقع، وكل ذلك ليستوفي التشريع كل مطلوبات الله من المُشَرَّع له .. حين يأخذ كل إنسان ذلك البيان الوافي من ربه، ويُسيطر به على حركة حياته في ضوء منهج الله، يكون قد اتقى ..

 

والتَّقوى كما نعلم ليست للنار فقط، لكنها اتقاء لكل مشاكل الحياة؛ فالذي يجعل الحياة مليئة بالمشاكل، هو أننا نأخذ بالقوانين التي نَسُنَّها لأنفسنا ونعمل بها، ولكن إذا أخذنا تقنين الله لنا، فمعنى ذلك أنَّنا نتقي المشاكل .. ولذلك يقول الحق: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً)[سورة طه: 124]،
أي أنَّ حياته تمتلئ بالهموم والمشاكل؛ لأنه يُخالف منهج الله ..

 

وإذا لم تنشأ المشاكل مع المخالفات لقال الناس: خالفنا منهج الله، وفلحنا، لذلك كان لابد أن توجد المشاكل؛ لتُنبهنا أنَّ منهج الله يجب أن يُسيطر .. وحين يتمسك الناس بمنهج الله، لن تأتي لهم المشاكل بإذن الله ..

________________

* - بقلم: فضيلة العلاَّمة الشيخ محمد متولي الشعراوي (رحمه الله) ..



مقالات ذات صلة