اللُّغة العربية لُغة القرآن .. فضيلة أ. د. محمد لطفي الصباغ (رحمه الله) ..

اللُّغة العربية لُغة القرآن .. فضيلة أ. د. محمد لطفي الصباغ (رحمه الله) ..

 

اللُّغة العربية لُغة القرآن .. فضيلة أ. د. محمد لطفي الصباغ (رحمه الله) ..

 

تُثار بين الفَيْنَةِ والفَيْنَةِ هجمة ظالمة على اللُّغة العربية لُغةِ القُرآن، وتُهاجم بشراسة، وتتعدّد مقولات المهاجمين.

ولا أعلم لُغة في الأرض تتعرّض لمثل ما تتعرّض له العربية، وما ذلك إلاَّ لأنَّ هؤلاء المهاجمين يُريدون الهجوم على الإسلام، فجعلوا اللُّغة العربية هدفًا أوّلاً. ولا أُعمّم فهناك ناس طيبون مخدوعون ظنُّوا أنَّ في ذلك خدمة للعلم، فقالوا بقولهم وهُم مُخطئون.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الانفال: 36].

لقد أخبرني صديق صدوق من أهل السودان أن من يتعلّم اللغة العربية في جنوب السودان يدخل في الإسلام مُباشرة.

إنَّ أعداء العربية يدّعون أن هذه اللُّغة لا تستطيع التَّعبير عن حقائق العلم التجريبي!! ..

ويدّعون تارة أخرى أنّ الحروف العربية ينبغي أن تُستبدل، وتحلَّ الحروفُ اللاتينية محلّها.

ويُنادون تارة بإحلال العامّية محل الفُصحى .. إلى غير ذلك من الادّعاءات الباطلة فأردت في هذه - المقال - بيان فضل هذه اللغة ..

 

اللُّغة العربيَّة لُغة حيَّة ظلّت على مدار بضعة عشر قرنًا لُغة الأدب والشِّعر، ولُغة المعارف العامَّة التي كان العرب يعرفونها بحكم تجربتهم ورواياتهم. ثم غدت لُغة العلم منذ القرن الهجري الأوَّل وما زالت كذلك إلى الآن.

يكتب الفقيه بها علم الفقه، ويكتب الطبيب بها علم الطب، ويكتب الفلكي بها علم الفلك، ويكتب عالم الرياضيات بها حقائق هذا العلم، ومن الجدير بالذكر أنَّ أمتنا هي التي اخترعت علم الجبر، ويكتب عالم الفيزياء وعالم الكيمياء بها حقائق هذين العلمين .. وهكذا ..

وما زالت هذه اللغة مُتصفة بالحيوية حتى هذه اللحظة ..

 

وقد عمل المستعمرون الذين احتلّوا بلاد المسلمين بالحديد والنار على مُحاربة اللُّغة العربية، وصُنع مناهج التعليم على ما يُحقق لهم أغراضهم الاستعمارية، لقد عمدوا إلى جعل الإنكليزيّة محل العربيّة في الجامعة والمدارس الثانويّة في مصر العزيزة بلد الأزهر، وكانت العربية قبل ذلك هي لُغة التعليم [1].

وكانت الكارثة.. إذ قلّدت بعض الدول العربية مصر في ذلك .. وإنّا لله وإنّا إليه راجعون ..


أمّا بلاد الشام فقد أبت أن تنقاد إلى هذه الخطة المغرضة، وشرعت تُدرس الطبّ منذ أكثر من ثمانين سنة في كلية الطب باللُّغة العربية [2].. ولما أنشئت في دمشق كلية العلوم والكليات العلمية التجريبية الأخرى كان التدريس فيها كلها باللُّغة العربية. وكان في هذه الكليات عُلماء أفذاذ جمعوا بين معرفة واسعة في اللُّغة وإتقان للمادة العلمية التي يُدرِّسونها، وقد كتبوا في علومهم التي تخصصوا بها كُتبًا ضخمة مؤلّفة بالعربية من الطبّ والرياضيّات والهندسة والفيزياء والكيمياء وغيرها. أغنوا بها الفكر العلمي المكتوب بالعربية. وكان المتخرّجون في هذه الكليات مُتمكّنين من مادّة التخصص التي درسوها وكانوا متفوّقين في تخصّصهم، واستطاع من ذهب منهم إلى ديار الغرب لمتابعة دراسته أن يُثبت تمكّنه من مادّة تخصّصه واستيعابه لحقائقها ..

وإنّه ليحزنني – والله – أن تكون الأُمَّة العربيَّة قد رضيت لنفسها المهانة عندما خضعت لرغبة الأعداء، فهجرت اللُّغة العربيَّة وأخذت لُغة أعدائها المستعمرين تدرّس أبناءها العلوم باللغة الأجنبية ..


إنّ جميع الدول لا تُدرس العلوم إلاّ بلغتها القومية سواء في ذلك بلاد الغرب والشرق، فالصين واليابان وكوريا وتركيا والكيان الصهيوني وروسيا ودول شرقي أوربا، كل هذه البلاد وغيرها تدرس أولادها بلغاتها القومية.

ومن أبرز الملاحظات التي تبدو لي ههنا تدريس الكيان الصهيوني العلوم باللغة العبرية، والعبرية لغة ميتة مضى على موتها أكثر من ثلاثة آلاف سنة، ولكن اليهود عملوا على إحيائها، وقد أحيوها وها هُم أُولاء يُدرّسون بها ..

حقًّا إنّه لأمر عجيب أن ينفرد العرب بهذا الموقف المريب ..

ويُثيرون مشكلة المصطلحات العلمية، وما هي بمشكلة أبدًا ..

 

 إن تعليم العلوم باللغة العربية يعني شرح النَّظريات والحقائق العلمية وبيانها باللغة العربية.

وهذا شيء، ووجود المصطلحات العلمية خلال الشرح والبيان شيء آخر، والمصطلحات لا تُشكل حجمًا كبيرًا من النص.

ولا مانع عندنا أن تبقى بعض المصطلحات باللغة الأجنبية إن لم نجد لها مصطلحًا في العربية. والمهمّ هو أن تعرف قضايا العلم وتشرح باللغة الأمّ للطلاّب.

وقد عُني مؤلفونا بموضوع المصطلحات، ومن أشهرهم "التهانوي" الذي كان حيًّا في سنة 1158هـ. والذي ألّف مُعجمًا قيّمًا سمّاه: "كشّاف اصطلاحات العلوم".

وقد وضع العلماء المسلمون عددًا من الموسوعات العلمية والمعاجم الشاملة وفيها بعض المصطلحات ومنها: "جامع العلوم الملقب بدستور العلماء" لأحمد فكري، و"مفاتيح العلوم" للخوارزمي"، و"الكليات" لأبي البقاء الكفوي، و"التعريفات" للجرجاني.

وقد يشكو بعضهم من تعدد المصطلحات العربية، ذلك أنَّ علماء بلد عربي يضعون مُصطلحًا، ويقوم علماء بلد عربي آخر بوضع مصطلح مُغاير للتعبير ذاته..  


أقول: وليس في ذلك بأس، والمصطلح الأجود سيفرض نفسه ويسود، وهذه الشكوى لم تعد واردة بعد أن صدر المعجم الطبي الموحد الذي وضعه علماء من بلدان عربية متعددة وهم:

د. جميل عانوتي (لبنان)، ود. حسني سبح (سوريا)، ود سعيد شعبان (الجزائر)، ود. الصدّيق الجدي (تونس)، ود. عادل حسين لطفي (مصر)، ود. عبداللطيف البدري (العراق)، ود. عبداللطيف بنشقرون (المغرب)، ود. محمد أحمد سليمان (مصر)، ود. محمد هيثم الخياط (سوريا)، ود. محمود الجليلي (العراق)، ود. مروان المحاسني (سوريا)، ود. أحمد عبدالستار الجواري.

وهذا المُعجم أصدره اتحاد الأطباء العرب في أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن الميلادي الماضي.

وقد صدرت الطبعة الأولى بعد أن عملت لجنة توحيد المصطلحات سبع سنين في إعداده. وكان هذا المُعجم بالإنكليزي والعربي.


وقد وَجَد اتحاد الأطباء العرب أن من الضروري أن يُشفع هذا المعجم بمعجم فرنسي عربي، فعهد مجلس وزراء الصحة العرب إلى المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية بشرق البحر الأبيض المتوسط أن يقوم بإنشاء مُعجم فرنسي عربي وأن يُعيد النظر في الأصل الإنكليزي العربي لتعديل ما ينبغي تعديله ولإضافة عدد من المصطلحات الجديدة التي لم يشتمل عليها المعجم في طبعته الأولى وهي كثيرة مُتنوعة. فكانت هذه الطبعة الثانية التي صدرت 1988م وقد استغرق إعدادها أربع سنوات. وقد ضمّ هذا المعجم عددًا كبيرًا من المصطلحات العربية والإنكليزية والفرنسية.

ــــــــــــــــــــــــ

[1] -  بدأ التدريس الطبي في مصر سنة 1827م يوم أسّس محمد علي في أبي زعبل ثم قصر العيني أول مدرسة للطب الحديث، وكانت لغة التعليم هي العربية. [(انظر كتاب "في سبيل العربية" للدكتور محمد هيثم الخياط.(ص28)]

[2] -  أُسس المعهد الطبي العربي في دمشق سنة 1919م الذي أصبح فيما بعد كلية الطب في الجامعة السورية. [(انظر كتاب "في سبيل العربية" (ص32)].

* - المصدر: مجلة الرائد ، العدد 260 ، محرم 1429 ، كانون أول – يناير 2008، www.alraid.net