المُستشرقون والقرآن الكريم – بقلم العلاَّمة: الأستاذ محمد قطب (رحمه الله)

المُستشرقون والقرآن الكريم – بقلم العلاَّمة: الأستاذ محمد قطب (رحمه الله)

 

المُستشرقون والقرآن الكريم – بقلم العلاَّمة: الأستاذ محمد قطب (رحمه الله)

 

وإذا كان بعض الموتورين من الديانات والمذاهب الأفكار المُنحرفة يقُومون بمحاولات ساذجة فجَّة للطَّعن في القُرآن العظيم، لِيَشْفي غليله من الإسلام والقُرآن، فالمستشرقون يقومون بجهد منظم دؤوب، يُنفق بعضهم فيه عمره، وتُنفق عليهم دُولهم الملايين للتَّشْكيك في المصدر الرَّبّاني للقُرآن ومُهاجمته بكل وسيلة، لعلَّهم يصلون إلى شيء يشفي الغليل! ..

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [سورة فصلت: 26].

( ... وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ) [سورة: 11].

قضية قديمة تــتكرر وموقف معلومة دوافعه ! ..

 

إنَّ هذا الكتاب العظيم الذي يأخذ النّفس البشرية من جميع جوانبها، وينفذ إليها من جميع أقطارها، ويتناول جميع مجالات حياتها، ويمنحها منهجاً مُتكاملاً، يشمل عقيدتها وسُلوكها، وسياستها واجتماعها واقتصادها ودُنياها وآخرتها .. في أسلوب مُعْجز مُتفرّد ..

هذا الكتاب موضع غيظ شديد في قُلوب الذين لا يُؤمنون به:

(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) [سورة فُصلت: 44].

وأَغْيَظ ما يغيظ أعداء الإسلام أنَّ المسلمين يُؤمنون إيماناً لا يتزعزع بأنَّ كتابهم هو الكتاب الحق، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنّ الله حفظه بحفظه فلم يتبدل منه حرف منذ نزل من عند الله ..

يُغيظهم ذلك فيسعون جاهدين إلى نفي الوحي، ونفي المصدر الرَّبَّاني للقُرآن، ونسبته إلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وهُو إفكٌ قديمٌ قالته الجاهلية العربية من قبل، وما تزالُ كلُّ جاهلية تُردده! ..

 

(وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ ...) [سورة يُونس: 37].

ليس فقط بأسلوبه المعجز، ولكن كذلك بمحتوياته، وبكون هذه المحتويات - بكُلِّ شمولها وتكاملها - معروضة بهذا الأسلوب المعجز .. أي أنَّه إعجاز فوق إعجاز..

لو أنّ الإعجاز كان في الأسلوب وحده، الذي عجز النَّاس خلال القُرون عن أن يأتوا بمثله، لكان هذا كافياً لإثبات مصدره الرَّبَّاني، ودليلاً قاطعاً على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعواه أنَّهُ رسول من عند الله، وأنّه لا ينطق عن الهوى (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) [سورة النجم: 4].

فكيف إذا كان الإعجاز موضوعياًّ إلى جانب الإعجاز البياني ؟ ..

هل تَأَتَّى لشخص في التاريخ كلّه أن يُؤلّف كتاباً يحوي من الحقائق ما جاء به القُرآن الكريم؟

خُذ حقيقة "الألوهية" وحدها، وما جرى فيها على أيدي البشر من تخبطات مُقارنة بصفاء الوحي وشفافيته، ووضوحه وتألُّقه، وعُمقه ونصاعته ..

 

وخذ إلى جانبها عشرات الحقائق الواردة في كتاب الله: حقيقة خلق الإنسان، حقيقة الدنيا والآخرة، حقيقة البعث والنُّشور والحساب والجزاء، حقيقة القيم التي ينبغي أن تحكم حياة الإنسان في الأرض، حقيقة الكون المادي وما يجري فيه، حقيقة المهمة التي خُلق الإنسان من أجلها، حقيقة الإيمان، حقيقة المعركة القائمة بين الإيمان والكفر، حقيقة السُّنن الرَّبّانية التي تحكم حياة البشر ..

 

أي كتاب من صُنع البشر جمع هذا الحشد من الحقائق بالتناسق الذي عُرضت به في هذا الكتاب، وبقوة التأثير الذي يبعثه في النفوس هذا الكتاب؟ ..

وأي بشر تبلغ اهتماماته هذا الشمول الذي لا يُغادر شيئاً من أساسيات الحياة إلاّ ويتعرض له، ويتعرض له في عُمق وتمكن مثل ما جاء في هذا الكتاب؟ ..

ولكن المستشرقين لهم في ذلك تخرُّصات! ..

 

يقولون: لقد جاء محمد بما جاء به نقلاً من كُتب أهل الكتاب، أو سَطْواً عليها أو تلقيّاً من أصحابها ! ..

وما أحسبُ أنَّ فرية يُمكن أن تبلغ من الكذب المفضوح أشد هذه الفرية! ..

كيف يتأتَّى للذي ينقل من كتاب يقول: إنَّ الله ثالث ثلاثة، أن يُقرّر أنّ الله واحد؟ ..  و كيف يتأتَّى للذي ينقل من كتاب يقول: أنَّ لله ولداً يُشاركه في الأُلوهية، أن يُقرر أنَّ الله لا شريك له ولا ولد؟! ..

 

و كيف يتأتَّى للذي ينقل من كُتب لم تترك نبيّاً من أنبياء الله إلاَّ لطَّخت سُمعته وشوّهت صُورته، واتَّهمَتْهُ بما لا يجوز في حق الرَّجُل العادي فضلاً عن النّبيّ المرسل، أن يسرد سير الأنبياء وقصصهم بالنَّصاعة والطُّهر والسُّمو الذي وردت به قصص الأنبياء في القُرآن؟! ..

و كيف يتأتَّى للذي ينقل من كُتب لم تتعرض لآيات الله في الكون، ولا لأطوار الجنين من النُّطفة للعلقة للمُضغة للعظام لاكتمال التكوين، أن يَسْرُد في كل هذه الأمور حقائق لم يتعرف عليها العلم إلا منذ زمن قريب؟! ..

ألا تستحي هذه الناس؟! ..

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۗ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [سورة الأنعام: 21].

 

ولكن المعركة لن تكُفّ:

(وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) [سورة البقرة: 217].

فعلى المسلمين من جانبهم أن يعرفوا حقيقة دينهم، وحقيقة الكتاب المُنزَّل إليهم، وأن يُقدِّروه حقّ قدره، وأن يتدبروه ليعرفوا عظمته وإعجازه:

(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [سورة النساء: 82].

وأهم من ذلك كُلّه أن يعملوا بما فيه، فإنّما نزل ليكون منهج حياة لخير أمة أخرجت للناس ..

ويوم يُرجعون إلى كتاب ربهم ليعملوا بمقتضاه، ستعود لهم خيريتهم، ويعود لهم التمكين الذي كان لهم في الأرض، وسيقومون بالشَّهادة على كُلِّ البشرية كما أمرهم الله:

(وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [سورة البقرة: 143].

  _____________

* - المقال بقلم: العلاَّمة الأستاذ محمد قُطب (رحمه الله) ..