أثَر التَّرجمات الأُورُبيَّة الأُولى للقُرآن الكَريم في صُنع الكَراهيَّة وتَجَذُّر العَداءِ للإسلَام .. بقلم: العالم الجليل أ. د. حسن المعايرجي (رحمه الله)
أثَر التَّرجمات الأُورُبيَّة الأُولى للقُرآن الكَريم في صُنع الكَراهيَّة وتَجَذُّر العَداءِ للإسلَام .. بقلم: العالم الجليل أ. د. حسن المعايرجي (رحمه الله)
"أثَر التَّرجمات الأُورُبيَّة الأُولى للقُرآن الكَريم في صُنع الكَراهيَّة وتَجَذُّر العَداءِ للإسلَام" .. بقلم: العالم الجليل أ. د. حسن المعايرجي (رحمه الله) ..
لماذا يا تُرى يُحاول الأوروبيون ترجمة القرآن الكريم مرة بعد أخرى - ودون توقف - منذ 845 عاماً ؟ -
هل ذلك شعور بتحدي القرآن الكريم لهم؟
أم أنهم فشلوا في ترجمة هذا النص القرآني الرَّباني المحكم؟
قد تكون أول ترجمة لاتينية كلونية حبًّا للاستطلاع، وفضولاً أثاره الفزع من الفتح الإسلامي للأندلس، ولكن ما شأن هذا الطوفان من التراجم الذي لايزال يترى حتى الآن - مع ملاحظة أن الترجمة ليست بالعمل الهين المُسلي - ويزداد الأمر صعوبة واستحالة مع نص معجز كالقرآن الكريم !؟ .ما سبب هذا الإصرار يا تُرى؟ أترك هذا التساؤل أمانة في أعناق الدارسين ليكشفوا لنا ما يُراد بالمسلمين وبقرآنهم المجيد! ..
نتيجة الترجمات الأوروبية الأولى للقُرآن الكريم:
يُمكن القول بأنَّ الترجمات الأوروبية قد مرت بعدة مراحل مُتداخلة:
1 - من القرن الحادي عشر حتى الثامن عشر:
أ - مرحلة الترجمة من العربية إلى اللاتينية (بذرة الاستشراق).
ب - مرحلة الترجمة من اللاتينية إلى اللغات الأوروبية (أكثر الترجمات سوءاً) .
2 - في العصر الحديث:
أ - مرحلة الترجمة من اللغة العربية مُباشرة إلى اللغات الأوروبية بواسطة المستشرقين وأضرابهم، بعد أن اشتد ساعد الاستشراق وعرف العربية ودرس كتبها.
ب - مرحلة دخــول المسلمين مؤخراً في ميدان الترجمة إلى اللغات الأوروبية مع ليبرالية العصر والنظرة العلمية المجردة لموضوع الترجمة بصرف النظر عن مشاعر المترجم الدينية إن لم يكن مسلماً.
وفي المرحلة الأخيرة فقط يمكن القول بأن هناك بعض الترجمات القليلة التي تُعد على أصابع اليد الواحدة في ترجمات اللغات الأوروبية مُجتمعة والتي زادت على 450 ترجمة كاملة - غير مئات من الترجمات الجزئية - التي يُمكن القول بأنها على شيء من الموضوعية. مع معرفة أن القرآن الكريم لا يتُرجم بل يُفسر ..
والتقسيم السابق يبين المراحل التي مرت بها الترجمات في البلدان الأوروبية بدءاً بالترجمة اللاتينية الأولى التي أشعلت الفتيل .. ولكن هناك تقسيماً آخر يمثل وجهة النظر النصرانية اللاتينية: فقد مرت الترجمات والكتابات النصرانية المختلفة عن القرآن الكريم بعدة مراحل:
أ - من عام (1100- 1250م) وفيها تُرجم القرآن الكريم إلى اللاتينية كما سبق، وفي هذه الفترة زاد الاهتمام بدراسة الإسلام بين الرُّهبان والدارسين.
ب - من عام (1250-1400م) بدأ تراجع الحملات الصليبية واندحارها، مما حدا بالكنيسة بأن تزيد من نغمة العداء للإسلام حفاظاً على شُعلة الصليبية مُتأججة، وتعويضاً عن التراجع، ويُمكن مُلاحظة ذلك في كتاباتهم خلال هذه المدة ..
ج - من عام (1400 - 1500م) خمدت جذور التحريض الى حين، ثُمَّ استعرت وتأججت مرة أخرى عام1453م، وهو عام فتح القسطنطينية الذي نكأ الجروح، وأيقظ الحقد الصليبي مرة أخرى بعد أن هدأ قليلاً إثر انهزاماته في حروبه الصليبية ..
ومنذ الترجمة اللاتينية الكُلونية الأولى، والنصرانية تعيش في وهم اكتشفوه بعد اطلاعهم على القرآن الكريم. فقد وجدوا أنَّ المسلمين يؤمنون بعيسى وموسى وابراهيم وآدم وحواء، وأن هناك كثيراً من التشابه بين الإسلام والنصرانية، وأن الإسلام ما هو إلا صورة مُشوهة من المسيحية (كذا)! ..
ومن هذا المنطلق - في رأيهم - فإنَّه من الممكن بدراسة القرآن وتنقيته مما شابه من انحرافات عن النصرانية، فإنَّه يمكن العودة بالمسلمين إلى حظيرة المسيحية! ..
وقد ظهرت هذه الفكرة بصورة واضحة في كتابات "نيقولاس الكوزي"، وخاصة في كتابه تنقية القرآن (Cribratio Alcorani)، وقد اعتمد في كتابته هذه على الترجمة اللاتينية المحفوظة في (دير كُلوني) في ذلك الوقت والمحفوظة حالياً في مكتبة الأرسينال في باريس، والممهورة بتوقيع المترجم(Bibliotheque de
Larsenal- Paris) ..
كما أعتمـد أيضاً على كتابات أخرى كثيرة ظهرت عن القرآن الكريم؛ أهمها كتاب: "ريكولـدوس الفلورنسي الدومينيكاني" (Ricoldus of Monte Crucis) بعنـوان: (Propunaculum Fidei )، والمطبوع في فينيسيا عام 1609م ..
وتحت تأثير هذا المفهوم - وهو أن المسلم قاب قوسين أو أدنى من المسيحية - تجرأ البابا (بيوس الثاني) فأرسل رسالةً للسلطان محمد الثاني يدعوه إلى النصرانية ليُصبح خليفة لأباطرة بيزنطة ..
ولَّما لم يكلف السلطان خاطره بالرد على هذه الدعوة أخذ الخيال يداعب الداعي باقتراب نصر سهل في الشرق بعد الكارثة التي حاقت بحروبهم الصليبية ..
وفي النهاية فإنَّه يمكن القول بأنَّ ترجمة القُرآن الكريم إلى اللُّغة اللاتينية لغة الكنيسة وبأيدي رجالها لم تكن عملاً أكاديمياً أثاره حُب الاستطلاع فقط؛ بل كانت عن سابق تخطيط وترصد، احتاج تنفيذه إلى إرسال البعثات لسنين عديدة لدراسة العربية، ثم اعتكاف طويل للترجمة بتوجيه أعلى سلطة دينية مسيحية، وبمساعدة وإشراف رئيس رهبان أكبر رهبانية في ذلك الوقت، وأقصد بها (رهبانية كُلوني) .. والأخطر من هذا هو البحث عمَّا ظنوه اختلافاً أو أخطاء أو ما شابه من الظنون، فكان الرد على القرآن والطعن فيه أهم عندهم من الترجمة، حتى إن (ماراكيوس) في طعنه للقرآن كان جادَّا في استكمال مطاعنه وردوده التي فاقت ترجمة سابقيه وردودهم، واشار إليها (جورج سال) مُشمئزاً مما حوت مُفضلاً عليها موضوعية مهذبة ماكرة قد تكون أفضل في التعامل مع المسلمين ..
قال هذا الماكر في مقدمة ترجمته:
"إنني لم أسمح لنفسي عند التحدث عن "مُحمد" أو "قُرآنه" أن أستعمل السباب المشين والتعبيرات اللاأخلاقية التي ظنها الكثيرون ممن كتبوا ضده أنها أقوى أسلوب للمجادلة.
ولكن العكس هو الصحيح، فقد وجدت أنه من الملائم معالجة الموضوع بالحكمة والأدب والموافقة على الأساسيات التي أعتقد أنها تستحق الموافقة، كمدى الجريمة الأبدية التي أرتكبها بفرضه ديناً مزيفاً على البشرية .. جورج سال (1874م) " ..
الخـلاصة:
لقد ترجم القوم كتاب الله العزيز وحرَّفوا وهاجموا ونقدوا ورفضوا وأثاروا الشُّبُهات - ولايزالون - وكل ذلك ليس في لغة واحدة بل في عشرين لغة ونيِّف فما هو موقفنا من هذا كله؟ ..
وماذا يجب علينا أن نفعله إزاء هذا الهجوم؟ ..
هل نترك الحبل على غاربه لكل من أمسك قلماً ليعتدي على كتاب رب العالمين ونحن بما يجري إمَّا غافلون أو جاهلون ؟! ..
إن الأمر يحتاج إلى موقف من المسلمين عامة، ومن المنظمات الإسلامية العالمية خاصة .. وفي تصوري أنَّ الأمر يحتاج إلى هيئة عالمية للقرآن الكريم ..
وأناشد هنا منظمة مؤتمر العالم الإسلامي (منظمة التعاون الإسلامي – حالياً) الذي نبعت منها منظمات مختلفة في شتى الميادين فهناك أجهزة تابعة ومنبثقة عن منظمة المؤتمر مثل: (مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية)، و(اللجنة الدولية للحفاظ على التراث الحضاري الإسلامي)، و(المؤسسة الإسلامية للعلوم والتكنولوجيا والتنمية)، و(الوكالة الإسلامية للأنباء)، و(منظمة إذاعات الدول الإسلامية)، و(المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة)، و(مجمع الفقه الإسلامي)، و(الاتحاد العالمي للمدارس العربية الإسلامية الدولية)، وحتى الرياضة فإن لها (الاتحاد الرياضي للتضامن الإسلامي)، ويكاد الإنسان يجد جهازاً أو منظمة دولية في كل الميادين الثقافية والإعلامية والإسلامية والفقهية وفي السيرة والسُّنة، ماعدا منظمة دولية تقوم على خدمة كتاب الله العزيز ..
إنني أدعو الأمة الإسلامية إلى تبني فكرة ((الهيئة العالمية للقرآن الكريم)) ..
إننا في حاجة إلى ((مؤسسة القرآن العالمية)) المنبثقة عن مؤتمر العالم الإسلامي يدعمها العالم الإسلامي مادياً، ويضفي عليها الصفة الأدبية والمعنوية، مما يمكنها من التحدث باسم القرآن الكريم نيابة عن المسلمين أجمعين .. فهي ستمثل العالم الإسلامي في خدمة القرآن الكريم ونشره وتوزيعه وطبعه وتفسيره والدفاع عنه وكشف التحريف ومتابعة المعتدي وتفسير كتاب الله العزيز للشعوب الإسلامية حسب حاجاتها وأولوياتها، ورصد ما يصدر من ترجمات فاسدة في العالم ومحاربتها..
لقد أقامت الترجمات اللاتينية وتوابعها سدَّا بين الأوروبيين وبين المعاني الصافية للقرآن الكريم، وأورثتهم عداوة وكرهاً شديدين للإسلام والمسلمين ..
ولعله قد آن الأوان لأن نأخذ بزمام المبادرة، ونُبلَّغ ونُبيَّن للعالم ما عندنا من هداية ونور ..
وقد أمر الله عز وجل ورسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه بتبليغ ما أنزله عليه إلى النَّاس كافة، كما أمره ببيان ما خفي عليهم من الأحكام ..
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ). [المائدة: (67)] ..
وقال تعالى: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). [النحل: (64)] ..
وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). [سبأ: (28)] ..
هدى الله أُمة الإسلام إلى الخير، ووفقها إلى نشر كتابه الكريم، وجعلها أمة المبلغين، الهادين إلى النور الذي بين أيديهم، إنَّه على كل شيء قدير ..
____________
- - المقال بقلم: أستاذنا العالم الجليل أ. د حسن المعايرجي (رحمه الله) ..