د. محمد مندور يَرْمِى القُرآن بأخذ أشياء كثيرة من التوراة، بقلم: العلاَّمة أ. د. إبراهيم عوض، أستاذ الأدب والنَّقد – جامعة عين شمس (وفَّقَهُ الله) ..
د. محمد مندور يَرْمِى القُرآن بأخذ أشياء كثيرة من التوراة، بقلم: العلاَّمة أ. د. إبراهيم عوض، أستاذ الأدب والنَّقد – جامعة عين شمس (وفَّقَهُ الله) ..
د. محمد مندور يَرْمِى القُرآن بأخذ أشياء كثيرة من التوراة، بقلم: العلاَّمة أ. د. إبراهيم عوض، أستاذ الأدب والنَّقد – جامعة عين شمس (وفَّقَهُ الله) ..
ممن تأثروا من كُتَّابنا بأفكار المستشرقين "د. محمد مندور". وأريد أن أتريث عند نقطتين أثارهما في كتاباته لهما صلة بما نحن فيه. أولاهما قوله، في كلمة الإهداء الخاصة بكتابه: "في الميزان الجديد"، إنَّه قد أخذ عن "طه حسين" فيما أخذ "الإيمان بالثقافة الغربية، وبخاصة الإغريقية والفرنسية". والثَّقافة الغربية ليست ديناً حتى يُقال إننا نؤمن بها. صحيح أنَّ الكلمة هُنا على المجاز، لكنَّنا في نفس الوقت لا نستطيع أن نغفل إيحاءاتها في هذا السياق. فمعروف أن "د. طه حسين" كان قد أعلن في كتابه: "مستقبل الثقافة في مصر" "أننا يجب أن نأخذ الحضارة الأوربية بخيرها وشرها وحُلوها ومُرها"، وهو ما يُذكرنا بما قاله "أتاتورك" من: "أننا يجب أن نعيش عيشة الأوربيين حتى إنَّهم لو أنهم أصيبوا في رئاهم بالسُّل لحرصنا على أن نُصاب به نحن أيضا". كما لا يمكن أن نغفل معنى تجاهل "مندور" للثقافة العربية الإسلامية، التي لم يقل إنَّه مُؤمن بها مع أنَّها كانت في عصر ازدهارها منارة عالمية ..
سَيُقال إنَّه يقصد أن الثقافة الغربية هي الثقافة السائدة التي تقود قاطرة الإنسانية الآن. ولا مشاحَّة في هذا بوجه عام، لكنَّنا لا يصح أن ننسى أنَّ الثقافة الغربية ليس طاهرة مُبرأة من العيوب والرزايا. فهي ثقافة تقوم على الغطرسة والكبر واحتقار الأمم والثقافات الأخرى، وفيها التحرر الجنسي وألوان الشُّذوذ المختلفة، وفيها الإلحاد، وفيها كراهية الإسلام والتخطيط لاستئصاله، والعمل بكل سبيل على النيل من رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، وفيها الخمر والخنزير. فكيف يُعلن "مندور" إيمانه شروة واحدة بالثقافة الغربية؟ ثُمَّ إنَّه لو كان يقصد أنَّها هي الثَّقافة المنتصرة لما أتى على الثقافة الإغريقية بذكر لأنَّها ثقافة قديمة ليس لها من السيادة والذُّيوع الآن قليل أو كثير ..
وعلى أية حال فإذا صحَّ أن يذكر الثقافة الإغريقية هنا فكيف أغفل ثقافتنا العربية الإسلامية، وهى المنبع الأول الذى أخذت منه الثقافة الغربية العلوم الطبيعية والإنسانية؟ كما أنَّها أقرب إلى أهل القرن العشرين تاريخيّاً من ثقافة الإغريق، فضلاً عن أنَّها ثقافتنا وثقافة آبائنا؟ كذلك فهي تتفوق على ثقافة الإغريق الوثنية التي تُبيح الزنا والخمر وتنظر إلى الأُمم الأخرى على أنَّهم برابرة مُتخلفون عن اليونانيين. قد يُرَدّ بأن في تلك الثقافة فلاسفة وعلماء. ونرد نحن بدورنا بأن ثقافتنا تضم فلاسفة وعلماء، وعُلماؤنا أفضل من علمائها؛ لأنَّهم تجاوزوا ما كان علماء الإغريق قد وصلوا إليه تجاوزاً كبيراً، وقد استفادت أوربا من عُلمائنا أعظم استفادة، وإن كانت تُنكر أن دينها لنا دين عظيم. أما الفلاسفة فحتى لو لم يكن لدينا منهم أحد أفلا يكفينا محمد صلى الله عليه وسلم عن الفلاسفة؟ بل ألاَّ يتفوق محمد على كل فلاسفة العالم تفوقا عظيما؟ لكن "مندور" يتحدث وكأنَّه لا تُوجد ثقافة عربية إسلامية لا اليوم ولا قبل اليوم، وإنما توجد فقط الثقافة الغربية والإغريقية ..
يبدو أن "د. مندور" كان ينظر إلى الإسلام على أنَّه مجرد دروشات وتمتمات يُؤديها ناس لا ينتمون إلى العصر الحديث ويعيشون في كهوف التخلف والخرافات. وهذا فهم عامي للإسلام. ولنأخذ بعض أحاديث النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام التي تُبين لنا أنَّ الإسلام هو دين التَّحضُّر الراقي، وأننا لو طبقناه ولم نكتف بالجعجعات الفارغة لتفوقنا على الأوربيين. وهم يعلمون هذا جيدا، ومن ثم يعملون بكل طاقتهم على محاربته وكسره حتى لا يقف عقبة في سبيل استعبادهم للمسلمين ..
وهم يرمون ديننا بكل نقيصة ويُصورون نبينا صلَّى الله عليه وسلَّم على أنَّه رجل كاذب أو ملتاث أو متوهم يعيش في الخيالات بعيداً عن الواقع. ترى أي خطأ في الحديث الذى يقول: ((إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ))، أو الحديث الذى يؤكد أن: ((إِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ))، أو الحديث الذى يقول: ((إنَّ مِدَادَ العًلَمَاءِ يُوزَنُ بِدِمَاءِ الشُّهَدَاءِ))، أو الحديث الذى يُبين لنا أنَّ: ((مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ كَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ))، أو الحديث الذى يُعلن بكل قوة أنَّ: ((طَلَبُ العِلْمِ فَرِيْضَةٌ عَلَىْ كُلِّ مُسْلِمٍ))، أو الحديث الذى يأمر المسلمين أن: ((اطلُبوا العلم من المهد إلى اللَّحْد)) [وعددٌ من أهل العلم على أن هذا ليس بحديث، وإنَّما هُو من أقوال بل أهل العلم]، أو الحديث الذى يُبشرنا قائلا: ((إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَصْنَعُ، وإنَ العالم لَيَسْتَغْفِرُ له مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض حتى الحيتَانُ في الماء))، أو ذلك الذى يُنبئنا بأن: ((تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَة))، ((وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنْ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ)) ..
أو ذلك الحديث الذى يَسْتحثنا ويُغرينا بالتفكير المستقل القائم على أساس المنطق والعقل والإحاطة بالموضوع من كل أطرافه والتَّعمُّق فيه، ويُبشّرنا بما لا وجود له في أي نظام تربوي أو فلسفيّ أو سياسيّ من أنَّ: ((المجتهد مأجور حتى لو أخطأ في اجتهاده))، أو الذى يُنبهنا فيه عليه الصَّلاة والسَّلام إلى أنَّ ((الصدقة في السر تطفئ غضب الرب))، أو أنَّ اليد الخشنة من أثر العمل والكدّ: ((هي يد يحبها الله ورسوله))، أو أن العين التي بكتْ من خشية الله أو باتت تحرس في سبيل الله: ((لا تَمَسّها النار أبدا))، أو أن: ((من رُزِق من البنات ولو بواحدة فأحسن تربيتها وزوّجها دخل الجنة))، أو أنَّ: ((الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه))، أو أن: ((السِّقْط يأخذ بيد أبويه في موقف الحساب ويراغم ربه حتى يدْخِلهما الجنة))، أو أن: ((أحق الناس بصحبة الابن هي أمه ثم أمه ثم أمه ثم أبوه))، أو أن مُعاشرة الرجل لزوجته حسنة من الحسنات يُؤْجَر عليها من الله وليست مجرد شهوة تُشْبَع، أو أن: ((إتباع السيئة الحسنة يمحوها))، فلا يُحاسَب الإنسان عليها، أو أنه سبحانه: ((قد رفع عنا السهو والنسيان وما استُكْرِهْنا عليه))، أو أن: ((الله قد خلق لكل داءٍ دواء)) ..
أو قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لرجل أخذه الخوف منه: ((هَوِّنْ عليك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة))، أو قوله: ((لا تُطْرُوني كما أَطْرَتِ النصارى عيسى بن مريم))، أو قوله: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان فى الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم))، أو: ((تسبِّحون وتحمِّدون وتكبِّرون دُبُرَ كل صلاة ثلاثا وثلاثين))، أو: ((من آذى ذِمّيا فأنا خصيمه يوم القيامة))، أو: ((إن من الذنوب ذنوبا لا يكفِّرها إلا العمل))، أو: ((ادرأوا الحدود بالشبهات))، أو: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى))، أو: ((اسْتَوْصُوا بالنساء خيرا))، أو: ((خَيْرُكُم خَيْرُكُم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))، أو: ((ليس الإيمان بالتمني، ولكنْ ما وَقَر في القلب وصدّقه العمل))، أو: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى))، أو: ((إن الشيطان لَيجْرِي من ابن آدم مجرى الدم في العروق))، أو: ((إن الحياء من الإيمان))، أو: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَ اثنان دون الثالث))، أو: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت))، أو: ((إذا بُلِيتم فاستتروا))، أو: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))، أو: ((إن ذا الوجهين هو أشرُّ الناس ويُكْتَب عند الله كذابا))، أو: ((اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعْمِل عليكم عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة))، أو: إن النظافة من الإيمان، أو: ((إن الله جميل يحب الجمال))، أو: ((ما لكم تدخلون على قُلْحًا؟ استاكوا))، أو: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، أو: ((نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع))، أو: ((ما ملأ ابنُ آدمَ وعاءً شَرًّا من بطنه)) ..
أو: ((رَضِينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ نبيا ورسولا))، أو: ((اللهم أسلمتُ وجهى إليك، وفوَّضْتُ أمرى إليك، وألجأتُ ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا مَلْجَأَ ولا مَنْجَى منك إلا إليك، آمنتُ بكتابك الذى أنزلتَ، ونبيك الذى أرسلتَ))، أو: ((لا رهبانية في الإسلام))، أو (( أَنْفِقْ ولا تخش من ذي العرش إقلالا))، أو: ((تَعِسَ عبدُ الدينار! تَعِسَ عبدُ الدرهم!))، أو: ((ما نقص مالٌ من صدقة))، أو: ((إن مَنْ فرّج عن مسلمٍ كُرْبة من كُرَب الدنيا فرّج الله عنه كُرْبة من كُرَب يوم القيامة))، أو: ((سبعةٌ يظِلّهم الله في ظلّه يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشابٌّ نشأ في عبادة الله، ورجل دعته امرأةٌ ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله ربُّ العالمين)) ..
أو: ((إن الله لَيُمْلِي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِته))، أو: ((من لا يشكر الناس لا يشكر الله))، أو: ((دخلت امرأةٌ النار في هِرّة حَبَسَتْها: لا هي أطعمتْها ولا هي تركتْها تأكل من خَشَاش الأرض))، أو: ((اتّقُوا النار ولو بشِقّ تمرة))، أو: ((إن المنبتّ لا أرضًا قطع ولا ظَهْرًا أبقَى))، أو: ((من بات كالًّا مِنْ عمل يده بات مغفورًا له))، أو: ((إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتْقِنه))، أو: ((إذا قامت القيامة وفى يد أحدكم فَسِيلَةٌ فلْيَغْرِسْها))، أو: ((أَلْقِ السلام على من تعرف ومن لا تعرف، أو لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث))، أو: ((اطلبوا الرزق بعزة الأنفس))، أو: ((إن الغنى غنى النفس))، أو: ((لا ينبغي للمؤمن أن يذِلّ نفسه))، أو: ((ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب)) ..
أو قوله عليه السلام لشاب خطب فتاة: ((انظر إليها، فإنه أَحْرَى أن يؤْدَم بينكما))، أو قوله: ((لا تُنْكَح البِكْر حتى تُسْتَاْذَن ولا الأَيِّم حتى تُسْتَأْمَر))، أو: ((ادرأوا الحدود بالشبهات))، أو: ((يسِّروا ولا تعسِّروا))، أو: ((مَنْ أَمّ في الصلاة فلْيخفِّف، فإن منكم الضعيف وذا الحاجة))، أو: ((أَحِبّ لأخيك ما تحبّ لنفسك))، أو: ((إخوانكم خَوَلكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فلْيُطْعِمْه مما يَطْعَم، وليُلْبِسْه مما يَلْبَس، ولا تكلفوهم فوق طاقتهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم))، أو: ((اتقوا الله في الضعيفين: النساء وما ملكت أيمانكم))، أو ((رفقًا أَنْجَشَةُ بالقوارير)) .. أو... أو... أو... إلخ مما لا يكاد ينتهى من التوجيهات والتشريعات والأدعية النبوية العبقرية التي أكرمنا الله بها والتي ذكرتُ ما ذكرتُه منها من محفوظ الذاكرة منذ الصبا، وبالمعنى في بعض الأحيان، وأرجو ألا أكون قد أخطأتُ في شيء منه؟ إنَّ الذى ينظر إلى الإسلام هذا الدين العظيم على أنه دروشات وتمتمات، ولا يحق أن يُؤخَذ مأخذ الجد لهو إنسان عامي مُتخلف مهما حاز من شهادات، ويحب العبودية ويُؤثر الالتصاق بالمستعمر والعيش معه تابعا ذليلاً على العيش في الإسلام عزيزاً حُرّاً مرهوب الجانب ..
ولو وقفنا أمام نظرة الإسلام إلى العلم على وجه خاص مُركزين على موقف النَّبي العمليّ من المعرفة، فلسوف نقف ذاهلين أمام ما صنعه صلى الله عليه وسلم، وهو الأُمِّي، عقب الانتصار في غزوة بدر حين وقع في يد المسلمين عشرات الأسرى من كفار قريش، إذ عرض عليهم أن يُطلق سراح كل من يقوم منهم بتعليم عشرة من صبيان المسلمين في المدينة القراءة والكتابة. لقد كان عدد القارئين والكاتبين في المجتمع الجاهلي جِدَّ ضئيلٍ كما هو معروف. لكن هذا العمل النَّبوي العبقريّ كان وراء انتشار حركة التعليم بين أفراد الأمة النَّاشئة، إلى جانب إلحاحه صلى الله عليه وسلم على أنَّ طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وهو ما يتميز به عن سائر الأنبياء عليهم صلوات الله وتسليماته ..
ووجه العبرة في هذا أنَّ العرب، رغم انتشار الأُمِّيَّة بينهم في الجاهلية انتشاراً واسعاً، سُرعان ما تخلصوا منها بعد الإسلام، وقَضَوْا عليها وأَضْحَوُا الأُمَّة الأولى للعلم والثقافة والفكر في العالم أو آنذاك رغم ضعف الإمكانات. إنَّه، عليه الصلاة والسلام، لم يُؤلف اللِّجان ولم يُخصص الميزانيات، ولم يستكثر من بناء المدارس والجامعات لهذا الغرض، إذ كان ذلك صعب التنفيذ في تلك الظروف إن لم يكن مُستحيله، بل اكتفى صلَّى الله عليه وسلَّم بالمتاح بين يديه، وهو صفر تقريبا. ومع ذلك فإنَّ هذا القليل الذى يكاد يقرب من حد العدم قد أتى بتلك الثمار المدهشة، وهى ثمار تتفوق على ما تحقق من نتائج في ذلك الميدان بطول البلاد العربية وعرضها منذ عصر النَّهضة الحديثة التي بدأت قبل أكثر من قرنين من الزمان مع توفر الإمكانات الهائلة التي لم يكن الصحابة يحلمون بواحد على المليون منها ..
لقد كانوا يتلقَّوْن تعليمهم مثلاً في المسجد، والمساجد لا تُكلف الدَّولة شيئاً يُذكر. ولم يستقدم عليه الصلاة والسلام لصبيان المدينة خبراء تربويين ولا مدرسين من الخارج بالعملة الصعبة، بل اعتمد على الأسرى الذين لو كان قد استبقاهم عنده دون عمل لكلفوه أموالا طائلة، لكنه بثاقب نظره وإلهامه العظيم افترع هذا الحل العبقري الذى أتى بأعظم النتائج دون أن يدفع فيه شيئا على الإطلاق.
وللبروفسير ن. ستيفن (Prof. N. Stephen) كتاب بعنوان "Muhammad and Learning" تحدث فيه بأسلوب مشدوه عن أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ودوره في مجال التعليم، مُستغرباً أن يتنبه رجل مثله يعتزى إلى أمةٍ باديةٍ أُمِّيةٍ تعيش في القرن السابع الميلادي إلى هذا الجانب من جوانب الحياة، وأن يكون له تلك الآراء التقدمية والمواقف المذهلة التي تعكسها آيات القُرآن والأحاديث الشريفة، وبخاصة أنَّ الأديان الأُخرى كانت تضع التَّعلم تحت الرقابة وتجعله حكراً على الكهنة والطبقة الحاكمة ليس إلاَّ، إن لم تعاقب على إفشاء العلم بين العامّة، فضلا عن إحراق الكُتب، الذى يؤُكد أنَّه سيظل إلى الأبد وصمة عار في جبين من اجترحوه، وفى جبين الكنيسة أيضا لارتضائها ومُباركتها هذا العمل المخزي، على عكس محمد صلى الله عليه وسلم، الذى دعا البشر جميعاً على اختلاف طبقاتهم ومهنهم وظُروفهم إلى السَّعي حثيثاً في طلب العلم رجالاً ونساء من المهد إلى اللَّحد، بل أوجبه عليهم غير مُكتفٍ بجعله حقّاً من حقوقهم يُمكنهم أن يأخذوه أو يُهملوه، وجَعَله باباً إلى الجنَّة، وساواه في الفضل بالاستشهاد في سبيل الله، بل فضّل العلماء على العبّاد المنعزلين عن تيار الحياة وميادين الجهاد بمثل ما يفْضُل به البدرُ سائرَ الكواكب ..
هذه بعض جوانب العظمة في ثقافتنا العربية الإسلامية، لكن "مندور" يتجاهل كل ذلك ويُؤكد تأكيداً جازماً حاسماً قاطعاً أنَّ الثقافة العربية مزيج من عناصر ثلاثة: العنصر العبري، والعنصر الفارسي، والعنصر اليوناني. ومعنى هذا أن الثقافة العربية ليس فيها شيء أصيل بل هي كلها مُستوردة من الخارج. ففي القُرآن وفى الإسلام، كما يقول، ما لا يحصى من مبادئ التوراة وقصص التوراة وأصول التوراة التشريعية، وفى الحضارة العباسية الكثير من وسائل الحياة الفارسية ببذخها المادي، بل وتياراتها الأخلاقية والفكرية في بعض الأحايين، وأما اليونان فأظن أن تأثيرهم في الفلسفة الإسلامية والمنطق الإسلامي وعلم الكلام، بل وفى العلوم اللُّغوية كالنَّحو والبلاغة وغيرها أوضح من أن يُذكر. أي أنَّ العرب لم يُساهموا بشيء في ثقافتهم، بل عاشوا على الشحاتة. كما أنه، فيما هو واضح من كلامه، لا يُؤمن بدور القرآن ولا الأحاديث في بناء صرح هذه الثقافة ..
وإلى القارئ ما كتبه "مندور" عن العُنصر العبري في الثقافة العربية، وهو موجود في مقال له منشور بمجلة "الرسالة" بتاريخ 1/ 1/ 1945م عنوانه: "دراسة اللغة العربية وآدابها". لقد أكد في ذلك المقال أنَّ في القرآن ما لا يحصى من مبادئ التوراة وقصص التوراة وأصول التوراة التشريعية: هكذا بإطلاق ودون مُبالاة بحقائق التاريخ والعلم. ترى كيف سَوَّلت له نفسه القول بأن في القرآن: "ما لا يحصى" من التوراة؟ لقد أحصى العلماء المسلمون القرآن كله سوراً وأجزاءً وأحزاباً، بل لقد أَحْصَوْا عدد كلماته، فكيف يكون الجزء التوراتي فيه، إن كان فيه شيء من "التوراة" كما يفهم "مندور" "التوراة"، شيء فوق الحصر والإحصاء؟ إننا لو تصفحنا القرآن لوجدنا أن الموضوعات المشتركة بينه وبين العهد القديم، لا التوراة كما يقول "مندور"، لألفينا أنَّه من السَّهل عدَّها وإحصاؤها. لكن القرآن في الواقع لم يأخذ شيئا من العهد القديم ..
وإذا كان بعضهم يرى أنَّ العهد القديم هو التوراة فهو مُخطئ. وإذا كان اليهود يرون أنَّ الأسفار الخمسة الأُولى من العهد القديم هي التوراة فهُم وشأنهم. ذلك أنَّ هذه الأسفار مكتوبة بيد موسى حسبما يقولون بينما التَّوراة عندنا هي الألواح التي تلَّقاها مُوسى من ربِّه مكتوبة كما هو مذكور في سورة "الأعراف"، فضلاً عن أنَّ الأسْفار الخمسة، التي يزعم اليهود أنَّها مكتوبة بيد موسى، تنتهى بهذه السطور العجيبة:
" (1) وَصَعِدَ مُوسَى مِنْ عَرَبَاتِ مُوآبَ إِلَى جَبَلِ نَبُو، إِلَى رَأْسِ الْفِسْجَةِ الَّذِى قُبَالَةَ أَرِيحَا، فَأَرَاهُ الرَّبُّ جَمِيعَ الأَرْضِ مِنْ جِلْعَادَ إِلَى دَانَ، (2) وَجَمِيعَ نَفْتَالِي وَأَرْضَ أَفْرَايِمَ وَمَنَسَّى، وَجَمِيعَ أَرْضِ يَهُوذَا إِلَى الْبَحْرِ الْغَرْبِي، (3) وَالْجَنُوبَ وَالدَّائِرَةَ بُقْعَةَ أَرِيحَا مَدِينَةِ النَّخْلِ، إِلَى صُوغَرَ. (4) وَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «هذِهِ هِي الأَرْضُ الَّتِي أَقْسَمْتُ لإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ قَائِلاً: لِنَسْلِكَ أُعْطِيهَا. قَدْ أَرَيْتُكَ إِيَّاهَا بِعَيْنَيْكَ، وَلكِنَّكَ إِلَى هُنَاكَ لاَ تَعْبُرُ». (5) فَمَاتَ هُنَاكَ مُوسَى عَبْدُ الرَّبِّ فِي أَرْضِ مُوآبَ حَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ. (6) وَدَفَنَهُ فِي الْجِوَاءِ فِي أَرْضِ مُوآبَ، مُقَابِلَ بَيْتِ فَغُورَ. وَلَمْ يَعْرِفْ إِنْسَانٌ قَبْرَهُ إِلَى هذَا الْيَوْمِ.
(7) وَكَانَ مُوسَى ابْنَ مِئَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً حِينَ مَاتَ، وَلَمْ تَكِلَّ عَيْنُهُ وَلاَ ذَهَبَتْ نَضَارَتُهُ. (8) فَبَكَى بَنُو إِسْرَائِيلَ مُوسَى فِي عَرَبَاتِ مُوآبَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا. فَكَمُلَتْ أَيَّامُ بُكَاءِ مَنَاحَةِ مُوسَى. (9) وَيَشُوعُ بْنُ نُونٍ كَانَ قَدِ امْتَلأَ رُوحَ حِكْمَةٍ، إِذْ وَضَعَ مُوسَى عَلَيْهِ يَدَيْهِ، فَسَمِعَ لَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَعَمِلُوا كَمَا أَوْصَى الرَّبُّ مُوسَى. (10) وَلَمْ يَقُمْ بَعْدُ نَبِي فِي إِسْرَائِيلَ مِثْلُ مُوسَى الَّذِى عَرَفَهُ الرَّبُّ وَجْهًا لِوَجْهٍ، (11) فِى جَمِيعِ الآيَاتِ وَالْعَجَائِبِ الَّتِي أَرْسَلَهُ الرَّبُّ لِيَعْمَلَهَا فِى أَرْضِ مِصْرَ بِفِرْعَوْنَ وَبِجَمِيعِ عَبِيدِهِ وَكُلِّ أَرْضِهِ، (12) وَفِى كُلِّ الْيَدِ الشَّدِيدَةِ وَكُلِّ الْمَخَاوِفِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي صَنَعَهَا مُوسَى أَمَامَ أَعْيُنِ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ" ..
ووجه العجب فيها أنَّ موسى، الذى كتب التوراة بيده، كتب أيضاً بيده في نهايتها أنَّه هو نفسه قد مات، وأنَّ بنى إسرائيل قد عملوا له مناحة، وأنَّه لم يظهر في بنى إسرائيل نبي مثله. فيا ترى كيف يحكى إنسان قد مات خبر موته والمناحة التي عملت له، وأنَّه لم يأت بعده من يُضارعه في العجائب التي أجراها الله على يديه؟ هذا ما لا يعقله العاقلون ..
كذلك لو كان "مندور" مُصيباً في أنَّ القُرآن قد أخذ من التوراة "ما لا يحصى" لما اتهم القرآنُ بنى إسرائيل بالعبث والتلاعب فيها ولما خطَّأها أدنى تخطئة، ولما كان ما يحكيه هو الصَّواب الذى لا يُمكن أن يكون ثم صواب سواه. ذلك أن "التوراة"، كما هي في أيدينا، تُصور الله وأنبياءه تصويراً لا يليق وتُخطئ في كثير من الأمور التي أوردتها: لنأخذ مثلاً كلامها عن أبناء الله وبنات الناس الذين تزوجوا وأنجبوا الجبابرة. هل يصح أن يكون هذا كلام الله أو حتى كلام نبي من أنبيائه؟ ولنأخذ أيضاً كلامها عن الله حين كان يتمشى في الجنَّة حين هبت ريح النَّهار، وكان يبحث عن آدم ولا يعرف أين اختبأ؟! ..
هل يصح أن يكون هذا كلام الله أو حتى كلام نبي من أنبيائه؟ ولنأخذ كلامها عن حقد الله على البشر وبلبلته ألسنتهم خوفاً من مناوأتهم له. هل يصح أن يكون هذا كلام الله أو حتى كلام نبي من أنبيائه؟ ولنأخذ أيضاً عَبَّ نوحٍ الخمرَ حتى سكر وانطرح على الأرض عريان السوأة، ودخول ابنه عليه، ولعن نوح له، ولعن عدة أجيال من ذريته فوق البيعة بعدما أفاق لا لشيء إلاَّ لأنَّه تَصَادَف أن رآه على هذه الحال المزرية حين دخل الخيمة التي كان مُنطرحاً فيها. وهى غلطته هو لا غلطة الابن. هل يصح أن يكون هذا كلام الله أو حتى كلام نبي من أنبيائه؟ ولنأخذ أيضا كلامها عن إبراهيم وخوفه من ((أبيمالك)) وتركه زوجته الجميلة له يصنع بها ما يشاء وانشغاله عنها بما أفاء ((أبيمالك)) عليه من الماشية مُكافأة له على تركه له زوجته التي قال إنها أخته. هل يصح أن يكون هذا كلام الله أو حتى كلام نبي من أنبيائه؟ ولنأخذ كلامها عن أن إسحاق هو وحيد إبراهيم في الوقت الذى كان له ولد آخر اسمه إسماعيل في الثالثة عشرة من عمره. هل يصح أن يكون هذا كلام الله أو حتى كلام نبي من أنبيائه؟ ولنأخذ أيضاً كلامها عن يعقوب ومُصارعته لربِّه طُوال اللَّيل وتكتيفه له سبحانه وتعالى، فلم يستطع أن يتفلفص من التكتيفة إلاَّ بعد أن وَجَّه ليعقوب ضربة قوية بقبضة يده إلى حق فخذه ..
هل يصح أن يكون هذا كلام الله أو حتى كلام نبي من أنبيائه؟ ولنأخذ حصول إسحاق بطبق عدس على البركة التي كانت مُخصصة لأخيه ((عيسو))، وكأن البركة الإلهية تُشترى وتُباع دون النظر إلى من يستحقها. و يا ليتها اشتريت بثمن كريم بل بطبق عدس. هل يصح أن يكون هذا كلام الله أو حتى كلام نبي من أنبيائه؟ ولنأخذ أيضا كلامها عن أن يد موسى حين كان يضعها في عبه ويخرجها كانت تخرج برصاء، فهل يصح أن يكون هذا كلام الله أو حتى كلام نبي من أنبيائه؟ ، ولنأخذ أيضا قتل موسى لأحد المصريين بدم بارد وعن عمد وسبق إصرار. فهل يصح أن يكون هذا كلام الله أو حتى كلام نبي من أنبيائه؟ ولنأخذ كلامها أيضا عن مخاطبة موسى لربه بخشونة وغلظة حين طلب منه أن يذهب لفرعون ويبلغه كلام ربه. فهل يعقل أن يكون هذا كلام الله أو كلام نبي من أنبيائه؟ ولنأخذ أيضا صنع هارون للعجل كي يعبده بنو إسرائيل. فهل يصح أن يكون هذا كلام الله أو حتى كلام نبي من أنبيائه؟ وكثيرا ما يوصف الله في العهد القديم بأنه "رب إسرائيل"، أما عندنا فهو دائما رب العالمين ..
وبالإضافة إلى ذلك هُناك ما ألغاه القرآن من تشريعات اليهود كلحم الإبل الذى يحرمه اليهود على أنفسهم ويحله الإسلام، وكقول "توراتهم" المزعومة إنَّ من يرتكب ذنباَ يُعاقبه الله هو وعدداً من أجيال ذُرِّيته رغم أنهم لم يجترحوا شيئا. كما تختلف أحكام الحيض والنفاس في ديننا عن توراتهم، فهي عندهم خانقة للأنفاس وللحياة ذاتها وتُشكل عَنَتاً لا مثيل له، أما عندنا فتتلخص في أنَّ الرَّجل لا يُعاشر امرأته أو آنذاك، ولا تُصَلِّى المرأة ولا تصوم، وما أسهل ذلك وأيسره، بل هو اليُسر كل اليُسر. كذلك فإنَّ عقوبة الزنا في القرآن هي الجلد بينما في اليهودية هي الرَّجم. وليس في الإسلام كهانة على حين تعرفها اليهودية، وهى وظيفة هارون وذريته من بعده، وما أعقد طقوسها وأشقها على النَّفس والحياة! أمَّا في الإسلام فهارون نبي لا كاهن. واليهود يُسبتون، أما المسلمون فلا. فعندهم الجمعة، ولا يُطْلَب منهم التوقف عن مُزاولة الأعمال فيها ..
وفى اليهودية يحل أخذ الربا من غير الإسرائيلي في حين أنَّ الربا في الإسلام حرام قولا واحداً سواء أُخِذ من المسلم أو غير المسلم. وليس في الإسلام مَحَارِق تُذبح فيها الحيوانات وتشوى فيها لحومها كي يشمها الله ويستمتع بها على عكس اليهودية التي تعرف عدداً منها للتقرب بها إليه. وفى الكُتب الأخرى من العهد القديم نجد أن تشريعات الحرب مع الأمم الأخرى تشريعات استئصالية، وهو ما لا وجود له في الإسلام. ثم إنَّ معظم تشريعاتنا لا وجود لها في اليهودية أو توجد لكن بصورة مختلفة، ومنها الحج والصوم والصَّدقات والصلاة والتوريث. ولا ننس أنَّ المحارم في الإسلام تختلف عنها في اليهودية. ولقد طالما قرَّع القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم يهود المدينة فلم يفتحوا فمهم بكلمة يردون بها عليه في هذا الصدد، ولم يُسجل التاريخ أنَّهم اتهموه صلى الله عليه وسلم بأنَّه يأخذ من كُتبهم رغم سفاهتهم وطول ألسنتهم وكثرة مُشاغبتهم له بسبب وبدون سبب وتجديفهم في حق الله نفسه ..
وأخيراً فإنَّ ما في القُرآن من موضوعات مُشتركة بينه وبين ما يُسمى بـ"التوراة" ليس مصدره تلك التوراة بل الوحى الإلهي. وإلا فليدلنا "د. مندور" أو غيره على الكيفيَّة التي توصل بها محمد صلى الله عليه وسلم إلى التَّوراة وأخذ منها تلك النصوص؟ لقد نزل كثير جدّاً من هذه النُّصوص في الفترة المكيَّة، أي قبل أن يرى الرَّسول اليهود في المدينة بعد هجرته. ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يكتب أو يقرأ حتى يُقال إنَّه قد أخذ هذا الكلام من كُتب اليهود، ولم يره أحد مُمسكا كتاباً طوال حياته. ولو كان قد تعلَّم هذا من أحد شفاها، فلماذا لم يظهر هذا الأحد ويُوجه للرَّسول ضربة تقصم ظهر دعوته بإعلان أنه هو معلم محمد وأن محمداً ليس بنبي بل تلميذا له؟ ومع هذا كله يأتي "مندور" في آخر الزمان مُقتفيا خطا المُستشرقين والمبشرين بل متجاوزاً لهم في هذا المضمار فيزعم أنَّ في القرآن "ما لا يحصى" من نُّصوص التوراة !! ..
___________
* - المقال: بقلم: العلاَّمة أ. د. إبراهيم عوض، أستاذ الأدب والنَّقد – جامعة عين شمس (وفَّقَهُ الله) ..