مَسْأَلَة حَرْق مَكْتَبَةِ الإِسْكَنْدَرِيَّة القَدِيمَة – بقلم العَالِمَةِ الجليلة: أ. د. زينب عبد العزيز

مَسْأَلَة حَرْق مَكْتَبَةِ الإِسْكَنْدَرِيَّة القَدِيمَة – بقلم العَالِمَةِ الجليلة: أ. د. زينب عبد العزيز

 

مَسْأَلَة حَرْق مَكْتَبَةِ الإِسْكَنْدَرِيَّة القَدِيمَة – بقلم العَالِمَةِ الجليلة:  أ. د. زينب عبد العزيز، أستاذ ورئيس قسم الحضارة الغربية بالجامعات المصرية (وفَّقَها الله) ..

 

تعقيب على القمص أنجيلوس جرجس:

دأبت المؤسسة الكنسية، في حربها ضد الإسلام، على القيام بعمليات إسقاط لكل ما تعرَّضت له هي من قمع في بداية مشوارها أو لكل ما قامت به من هدم وتدمير لاقتلاع الآخر، كما دأبت على تحريف التَّاريخ، تاريخها وتاريخ الآخر، خاصة بعد أن قرر الفاتيكان تسوية الخلافات العقائدية والقطيعة التي امتدت منذ ((مجمع خلقيدونيا))، سنة 481م.، حتى احتياج الغرب الصليبيّ المتعصب لرأس حربة، يضرب بها الإسلام والمسلمين من الدَّاخل، فبدأت المصالحة مع ((البطريرك الراحل "شنودة الثالث"))، وهذه قصة لخيانة أخري ..

 

ومن أشهر هذه الإسقاطات وتحريف التَّاريخ ما ورد بقلم ((القمص أنجيلوس جرجس)) بجريدة الأهرام الصادرة يوم 16 يوليو 2017م، تحت عنوان: "الأقباط لم يحرقوا مكتبة الإسكندرية"، وإلصاق تُهمة حرق مكتبة الإسكندرية القديمة، الذي تمَّ في القرن الرابع الميلادي، إلى القائد "عمرو بن العاص رضي الله عنه" بناء على أمر من "الخليفة عمر رضي الله عنه"، أيام فتح مدينة الإسكندرية، في القرن السابع، حتى وإن لم يكتب ذلك بوضوح! ..

 

وتقول الوثيقة الوحيدة التي يستند إليها من يُروج لهذه الفرية، وهي بقلم "ابن القفطي"، في القرن الثالث عشر الميلادي، في كتابه المعنون: "تأريخ الحكماء": "أنَّ الخليفة عمر رضي الله عنه قد أصدر أوامره للقائد عمرو بن العاص رضي الله عنه قائلاً: "فيما يتعلق بالكتب التي ذكرتها، فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنىً، وإن كان فيها ما يُخالف كتاب الله فلا حاجة اليها، فتقدم بإعدامها. فشرع عمرو بن العاص رضي الله عنه في تفريقتها على حمامات الإسكندرية وإحراقها في مواقدها كوقود لتسخين المياه. وقد استغرق حرقها ستة أشهر كاملة" ..

 

ولن أتناول في هذا الجزء التعليق على تلك الفرية الواضحة، وأتركها لآخر هذا المقال، لأعرض موضوع مكتبة الإسكندرية منذ بدايته وكما تتناوله الوثائق الغربيَّة ..

 

الإسكندرية الكُبرى:

لم تكن الإسكندرية آنذاك مُجرد مدينة مُزدهرة، وإنما كانت بمثابة حضارة مُتكاملة، بمعنى أنَّها كانت تضم تلك الإنجازات التي يتركها عظام الرجال في مُجتمع تتعدَّى أبعاده نطاق الجغرافيا. فالنطاق التاريخي الواقع بين الفترة التي تمَّ فيها تأسيس هذه المدينة على أيدي الإسكندر الأكبر، سنة 332 ق.م.، إلى الفترة التي تمَّ فيها تدميرها على أيدي ((الأسقف ثاؤفيلس)) والقساوسة التابعين له ومَن بعدهم، في القرن الرابع الميلادي، يُعد بمثابة حقبة زمانية متفردة في ازدهار عُلومها. فقد كانت مدينة الإسكندرية تمثل عالماً بأسره وأسلوب حياة فنيَّة وفكريَّة وعلميَّة مُترابطة الأركان. ونُطالع في ((موسوعة أونيفرساليس)): "أن يكون المرء سكندرياً لم يكن يعنى أنَّه من مُواطني هذه المدينة فحسب، وإنَّما يعنى الانتساب إلى قيم حضارية في عاصمة البطالمة، خُلفاء الإسكندر في مصر"..

 

فقد كان لها أهميَّة كُبرى أيَّام الرُّومان، وكان لها موقعاً خاصّاً وآثاراً تُميزها. بل أضفت عليها شُهرتها العديد من المُسمَّيات، ومنها: الجميلة، شديدة الجمال، خالدة الذِّكرى، المَلَكية، الشديدة البريق .. وكانت أكثر الصفات استخداماً "الكُبرى".. وقد ازدهرت بها عُلوم الرِّياضيات والفَلك والهندسة إلى جانب تألُّق المدارس الفكرية والفلسفيَّة – وكلها مجالات تواصلت اعتماداً على ما كانت الحضارة المصرية القديمة قد وصلت إليه ..

 

فمنذ بداية النِّصف الأوَّل من القرن الثالث قبل الميلاد، أيام بطليموس الأول، امتلأت الإسكندرية بالمباني الرائعة واكتمل شكلها المعماري الذي حافظت عليه حتى نهاية العصور القديمة، بحدائقها الغنَّاء ومبانيها اليونانية الطابع. وفى حي القصور، الذي كان يفترش ربع المدينة تقريبا، تم تشييد القصر الملكي على البحر، والمتحف ، والمكتبة الشهيرة، والسوما، قبر الإسكندر الأكبر، والسيرابيوم، المعبد المقام للإله اليوناني المصري سيرابيس، ومعبد إيزيس، والسُّوق، والمسرح. بينما الفنار المشيد على جزيرة فاروس يُكمّل تلك الروائع المعمارية ..

 

مكتبة الإسكندرية:

كان بطليموس الأول قد أمر، عام 288 ق.م.، بتشييد "الميوزيوم"، أي "قصر ربات الفنون"، الإلاهات التسع الشقيقات المُلهمات للغناء والشعر والفنون والعلوم والميثولوجيا الإغريقية، وكان يضم جامعة، وأكاديمية علمية، والمكتبة الشهيرة التي كانت تحتوي على سبعمائة ألف مخطوطة. وكان قد طلب من كل البلدان الشهيرة أن تُرسل له أعمالاً لكافة المؤلفين وأمر بترجمتها إلى اليونانية. كما كان يطلب من البواخر التي تتوقف بميناء الإسكندرية أن تسمح بأن يتم نقل وترجمة ما تحمله من كتب .. فكانت النُّسخ المنسوخة تُعاد إلى البواخر ويتم الاحتفاظ بالأصل في مكتبة الإسكندرية ..

 

وأصبح "الميوزيوم" مركزاً علميّاً عالي المستوى، يؤمَّه كافة العلماء، حيث يجدون كل ما يحتاجون إليه. وكانت عملية ترجمة كل هذه الأعمال إلى اليونانية تمثل عملاً ضخماً، استحوذ على كافة مُثقَّفي البلد تقريباً. فقد كان يتعيّن على هؤلاء الأشخاص إتقان لُغتهم الأم إضافة إلى إتقان اليونانية. وعند امتلاء المكتبة تم تشييد مُلحق لها قُرب الميناء. وهذا الملحق امتدت إليه النيران عام 47 ق. معندما قام يوليوس قيصر بحرق اسطول الإسكندرية ..

 

ومن أشهر من قام بإدارة هذه المكتبة، الفلاسفة: ((زينودوت الأفسوسي))، و ((أرستوفان البيزنطي))، و ((أريستارك الثاموتراسى))، و ((أبوللونيوس)) من رودس. وكان آخر من تولى إدارتها من كبار العلماء هو العالم ((ثيون (Théon))، والد عالمة الرياضيات والفيلسوفة الشهيرة ((هيباثيا)) التي كانت تُدير ((مدرسة الأفلاطونية الجديدة)) بعد ((أفلوطين))، وقام القساوسة بقتلها بأمر من ((الأسقف كيرولس)) .. فقد رجمها القساوسة عام 415م بناء على أمر ((الأسقف كيرولس))، الذي جعلته الكنيسة قديسا سنة 1882م، وماتت بأبشع طريقة انتقاماً منها ومن علمها. ويقول ((سقراط القسطنطيني)) (380 – 450م) المؤرخ المسيحي، الروماني الجنسية، والمتخصص في التاريخ الكنسي: "إن القساوسة انتهزوا فرصة مرورها بعربتها وجرّوها عُنوة وسحلوها، ثم أدخلوها الكنيسة ونزعوا عنها ثيابها وضربوها بالهروات والأواني، ثم مزقوا جسدها ووضعوا تلك الأجزاء في كيس وصعدوا بها إلى "السينارون" وأحرقوها. مما أثار الانتقادات ضد ((الأسقف كيرولس)) و((كنيسة الإسكندرية))، إذ كان الموقف في غاية الإحراج لمن يقولون إنَّهم أتباع يسوع والمحبة، ويقومون بتلك المجازر والاغتيالات. وقد حدث ذلك في العام الرابع من ولاية ((كيرولس))، والعام العاشر من حكم ((هونوريوس))، والعام السادس من حكم ((تيودوز))، في شهر مارس أيام الصيام"، [(وارد في كتاب "التاريخ الكنسي"، ج7، ص 14، ترجمة رومان تلميذ هيبوخانى)].. وياله من احترام لشعائر دين يفرضونه بالقتل والحرق بكل جبروت! ..

 

وكانت المعارك بين المسيحيين والوثنيين قد بدأت حتى من قبل أن يسمح لهم الإمبراطور ((قسطنطين))، عام 313م، بممارسة مسيحيتهم مثل باقي العبادات في الدولة. وفى مطلع القرن الثالث كف تعليم ((اللغة الهيروغليفية)) في مصر، واختفى ((علم التحنيط)). ونرى بكل وضوح وأسف، ما نطالعه في [(موسوعة فيكيبيديا)]: " أن دخول المسيحية مدينة الإسكندرية قد محى ذاكرة مصر تماما"! ..

 

مسيحية تُدَمِّر وتقتلع الآخر:

مع فرض المسيحية ديانة رسمية ووحيدة للإمبراطورية الرومانية في عام 391 م، زادت المعارك بين ((الأسقف أريوس)) و ((الأسقف أطنازيوس))، القريب من السُّلطة، حول طبيعة السيد ((المسيح عليه السَّلام)). ووصل اضطهاد الوثنيين إلى درجة غير مسبوقة. فقد تمَّ هدم معظم المعابد والتماثيل في كل الإمبراطورية، ومُنعت الطُّقوس الدينيَّة الوثنيَّة كلها بينما تزايد النُّفوذ المسيحيّ بصورة كاسحة ..

 

ويقول ((هنري مونييه)) في كتابه عن [(مصر البطلمية)): أيام ((قسطنطين)]، الذي حكم من 323 إلى 337م، كان ((معبد السيرابيوم)) في الإسكندرية في أوج تألُّقه كما كان يُعد قلعة ((العالَم الهللينى)). وقد قرر ((قسطنطين)) وقف الاحتفالات الوثنية التي كانت تُقام فيه بسبب عداء الكهنة الشديد للمسيحيين. بل لقد أغلق المعبد في يوليو 325م، وهو نفس العام الذي تمَّ فيه تأليه السيد المسيح. وبذلك بدأ أول هجوم على ((السيرابيوم))، ذلك الهجوم الذي واصله ((ثاؤفيلس))، أسقف الإسكندرية، بشراسة حتى أتى عليه ..

 

فقد جعل ذلك الأسقف مهمته الأساسيَّة هي اقتلاع الوثنيَّة من مصر، خاصَّة وأنَّ الوثنيين كانوا لا يزالوا أقوياء في تلك الفترة ويهزؤون من خصومهم. وكان ((السيرابيوم)) هو مكان تجمعهم مثلما كان محراب عبادة ((سيرابيس)) منذ أيام البطالمة الأوائل. وتحول المعبد بعد ذلك ليُصبح مدرسة شهيرة تتواصل فيها تعاليم الأفلاطونية الحديثة بفضل ((هيباثيا)) التي طالعنا مصيرها ..

 

وما إن وصل قرار الإمبراطور بإلغاء العبادة الوثنية حتى تزَّعم ((الأسقف ثاؤفيلس)) القيام بإجراءات استفزازية ضد الوثنيين، اندلعت على إثرها مظاهرة عارمة. " فما كان منه إلا أن تزعم بنفسه عصابة من الرهبان المسيحيين، على حد وصف ((هنري مونييه)) في كتابه السالف الذكر، واستولى على حصن الإسكندرية العلمي وقام بنفسه بتحطيم ((تمثال الإله سيرابيس))، تحفة الفنان المبدع ((برياكسيس))، وجعل أتباعه يسيرون في المدينة بأجزائه المحطمة. وعانت باقي المعابد من نفس المصير" ..

 

"ولم يكن هدم ((السيرابيوم)) إلا حلقة في سلسلة طويلة من الدَّمار الذي تمخضت عنه المسيحية في صراعها الشرس ضد الوثنية"، ويواصل ((مونييه)) قائلا: " ان هذا الحدث كان له أصداء واسعة بسبب تزعم ((الأسقف ثاؤفيلس)) له، ويقول العديد من المؤرخين أنه افتعل هذه المظاهرة بالتواطؤ مع ((إيفاجريوس))، حاكم الإسكندرية الروماني، استنادًا إلى قرار ((الإمبراطور تيودوز))" (صفحة 37). أما باقي المعابد التي لم يتم هدمها فقد تمَّ تحويلها إلى كنائس ..

 

بردية تدين الأسقف ثاؤفيلس:

ومن الغريب أن هذا ((الأسقف، ثاؤفيلس)) السكندري، المتوفى عام 412م، وكان من المدافعين بشدة عن ((تأليه يسوع))، والذى يحاول سيادة ((القمص أنجيلوس جرجس)) تبرأته بإلصاق وحشية أفعاله التدميرية بالمسلمين، هناك ((بردية من القرن الخامس)) تُصوره وهو يقف أعلى ((معبد السيرابيوم)) و ((مكتبة الإسكندرية)) التي أحرقها! والصورة تمثله وهو ممسك بنسخة من ((الكتاب المقدس))، ويقف مُنتصرا على ما دمَّره، ويُرى ((الإله سيرابيس)) داخل المعبد. ويوجد هذا الرسم على هامش ((حولية مسيحية ))كُتبت في الإسكندرية في ((القرن الخامس الميلادي)). أي أنَّه حتى ذلك الوقت كان معروفاً وسائداً أنَّ ((الأسقف ثيوفيلس)) هو الذي دمَّر ((السيرابيوم)) و ((مكتبة الإسكندرية)) .. ورغمها، يُواصل المحرفون فرياتهم! ..

 

والنُّبذة القصيرة التي نُطالعها في [المجلد الرابع لفهرس موسوعة أونيفرساليس الفرنسية (1996م) عن ثاؤفيلس السكندري] تقول: " ((ثاؤفيلس، أسقف الإسكندرية)) من 384 إلى 412م، قام بدور أساسي في السياسة المدنية والكنسية في عصره. فقد توصَّل، بالاتفاق مع الإمبراطور، وبالقيام بالعديد من المعارك الدامية، إلى اقتلاع الوثنية من مصر وذلك بهدم المعابد الوثنية، ومنها ((السيرابيوم، عام391م)) وبإقامة المباني المسيحية بدلاً عنها. إنَّ الدور الذي لعبه في المعركة المتعلقة ((بأوريجين)) وموقفه من ((يوحنا كريزوستوم)) (أي الفم الذهبي، لفصاحة لسانه)، جعل المؤرخون ينتقدونه بشدة. فبعد أن ظل لفترة من الوقت مؤيدا لأتباع ((أوريجين))، تغيَّر موقفه فجأة وقام بمهاجمة الرُّهبان التابعين ((لأوريجين)) في صحراء وادي النَّطرون وإجبارهم على المنفى. واضطرته هذه القسوة إلى الذهاب للدفاع عن نفسه في ((القسطنطينية))، حيث كان قد لجأ إليها قرابة خمسين راهباً كانوا فارين منه. وقد وصل ((ثاؤفيلس)) مُحاطاً بتسع وعشرين أسقفاً مصريّاً ونجح في كسب معركته بفضل العديد من معارفه في البلاط الإمبراطوري، مُطالباً عام 403م باستدعاء ((يوحنا كريزوستوم)) للمثول أمام المجمع. وأدَّت هذه الأحداث إلى النفي النهائي ((ليوحنا)) عام 404م. إلاَّ أنَّ ((البابا إينوست الأول)) قد اعترض بعد ذلك على هذه الإدانة دون أن يتمكن من تبرئة ((يوحنا))، وقام بحرمان ((ثاؤفيلس)) الذي كان قد نسج هذه المؤامرة عن طريق وسائل عديمة الشرف" [(صفحة رقم: (3593)] ..

 

وتكشف هذه النُّبْذة، التي أوردتها بكاملها، عن مدى عدم أمانة القائمين على تلك المسيحية التي كانوا ينسجونها عبر المكائد والمؤامرات، وكيفيَّة الإطاحة لا بالخصوم الوثنيين فحسب، وإنَّما بنفس القائمين معهم على ذلك الدين!! ..

 

ومن الوثائق الغربية القديمة، يُورد الباحث ((جي دفيتش)) في كتابه عن ["حرب المخطوطات"] أنَّ ((المؤرخ اللاتينى ليبانيوس Libanios)) أورد في كتابه المعنون ["من أجل المعابد"] ما يلي: " من أكثر المندفعين حماساً في حرب الجبابرة هذه هم الرُّهبان الذين كانوا يجوبون المقاطعات حاملين الهروات والرَّوافع والشواكيش ليقوموا بكسر التماثيل وهدم المذابح والمعابد (...). وفى عام 391م قام ((ثيوفيلس، أسقف الإسكندرية))، على رأس عدد من أتباعه المسيحيين بغزو ((معبد السيرابيوم)) وهدمه بعد أن سرقوا ما به ولم يتركوا إلاَّ قاعدة المعبد لضخامة أحجارها".. [(ترجمة رنيه فان لوى، بيزنطة، المجلد السابع، طبعة 1933)] ..

 

وإضافة إلى قرار ((الإمبراطور تيودوز)) الصَّادر عام 393 م، والذي ينص على استكمال عملية اقتلاع الآخر، قائلاً: " إننا نُريد أن يُتم هدم كافَّة المعابد والآثار الوثنيَّة التي لا تزال قائمة، ونأمر بأن يُتم محو ذلك الدَّنس بإقامة العلامة المبجلة للدِّيانة المسيحيَّة، وسنحكم بالموت على كل من يُخالف أمرنا هذا عن طريق القضاة المتخصصون". [( Cod Théo. XVI, p. 125)]. وإضافة إلى قرار ((تيودوز)) هذا، هُناك قرارات العديد من ((المجامع المسيحية)) التي تنص على مُواصلة عملية الاقتلاع، ومنها ((مجامع المدن الفرنسية)) التالية: [(آرل عام 573م)، و (نانت عام 668م)، و (روان عام 687م)]، وخاصة ما قام به ((الإمبراطور شارلمان)) الذي اقتلع ما بقي من وثنية بصورة وحشيَّة حتى وصفه ((المؤرخ آرثر كمب)) في كتابه المعنون: ["مسيرة الجبابرة"]، بأنَّه " قد مارس التبشير بالقتل العرقي".. وهُو ما يُوضح بأيَّة وسائل تم فرض المسيحية في كل الأماكن التي دخلتها حتى في مصر!! ..

 

وفى كتاب بعنوان: [" شمس الله تشرق على الغرب" (1963م)]، تقول الباحثة الألمانية سيجريد هونكه (S. Hunke): "إنَّ القرن الثالث يفتتح سلسلة من أعمال الهدم المنهجية، إذ قام ((الأسقف المسيحي)) بإغلاق ((الموزيوم)) وطرد كل المثقفين منه. وفى عام 366م، تحت حكم ((الإمبراطور البيزنطي فالنس))، تم تحويل ((السيزاريوم)) إلى ((كنيسة))، وحرق مكتبته بعد نهبها، ومُطاردة فلاسفتها بتهمة مُمارسة السِّحر. وفى عام 391م طلب ((الأسقف ثاؤفيلس)) من ((الإمبراطور تيودوز)) الموافقة على هدم مركز حج القدماء وآخر قلعة علم باقية، ((السيرابيوم))، والقيام بحرق مكتبته. وبذلك ضاع من الإنسانية إلى الأبد كنزاً لا يمكن تعويضه". [(صفحة 217)] ..

 

وتُواصل الباحثة بعد ذلك قائلة: "إلاَّ أنَّ اعمال الهدم التي يقوم بها المسيحيُّون المتعصبون لم تتوقف عند ذلك. إذ أنَّ صديق ((الأسقف سيفيريوس الإنطاكي)) يعترف بلا خجل أنَّه والأسقف قد كانا في شبابهما أعضاء في ((جمعية مسيحية)) شديدة النشاط في الإسكندرية في القرن الخامس، وقاما هما الاثنان بمعارك شرسة ضد المثقفين الوثنيين وهاجموا معابدهم، وقاموا بتكسير تماثيلها وكل منشئاتها. وبذلك اختفت معالم الثقافة الهللينية الواحدة تلو الأخرى. وفى عام 529م تم إغلاق آخر ((مدرسة للفلسفة)) في أتينا، وفى عام 600م تم حرق المكتبة المسماة (("الإمبراطورية")) التي أسَّسها ((أغسطس)) في ((روما)). وتم منع قراءة الأعمال الكلاسيكية، ودراسة الرياضيات، وهدم المتبقي من أبنية العبادات القديمة" [(صفحة218)] ..

 

أي إنَّ عمليات الهدم والحرق في محاولة دؤوب لاقتلاع الآخر من جذوره لم تتم في ((مدينة الإسكندرية)) وحدها، وإنما تواصلت في كل البلدان التي امتدت إليها المسيحية .. وتُوضح ((سيجريد هونكه)) في نفس الصفحة قائلة: " وعندما دخل العرب مدينة الإسكندرية عام 640م، لم يكن بها أية مكتبة عامة. أمَّا حريق المكتبة الكبرى السكندرية والذي تم إلصاقه بعد خمسة قرون بالقائد عمرو (بن العاص) رضي الله عنه، فالعديد من الأبحاث الدَّقيقة سمحت بتأكيد أنَّ هذه مجرد فرية، و يا لها من فرية حقيرة .. وكم كانت سعادة من افتروها لاتهام "البرابرة"! والعكس هو الصحيح، ففي مسيرته الفاتحة المنتصرة، قدم ((فاتح الإسكندرية)) رضي الله عنه العديد من النَّماذج على عظمة التسامح لديه، فقد منع القيام بنهب وهدم المدن، ثم، و يا لعظمة وغرابة ما أقدم عليه: فقد سمح لرعاياه الجُدد بممارسة عبادتهم التقليدية".. أي إنَّ المسلمين لم يقوموا بأيَّة عملية لاقتلاع الآخر بل وسمحوا للمسيحيين واليهود بممارسة عباداتهم! ..

 

ويقول الفونس دان (A. Dain) في كتابه المُعنون: ["المخطوطات" (1980)]: " يُقال عادة أنَّ جُنود الخليفة عمر رضي الله عنه أحرقوا ((معبد السيرابيوم)) وما كان يضمه من مكتبة شهيرة في هذه المدينة. وقد صدّقت تلك المقولة انا شخصيّاً، إلاَّ أنَّه يجب علىّ أن أعترف بخطائي، إذ ما أن رحت أتبين الأمر حتى وجدت أنَّ من قام فعلاً بحرق مكتبة الإسكندرية هم ((مسيحيو الأسقف ثاؤفيلس)). وهُنا لا بد من توضيح أنَّه كان بالإسكندرية مكتبتين: ((مكتبة البروخيون))، وكانت في وسط المدينة، وقد هدمها ((أورليان)) سنة 273م حينما استولى على المدينة، و((مكتبة السيرابيوم))، التي هدمها ((الأسقف ثاؤفيلس)) عام 391م. ويقول ((القس أوروز))، مؤلف [("كتب ضد الوثنيين" عام 417م)]، أنَّه عند مروره بالإسكندرية رأى "دواليب الكتب التي أفرغها رجالنا من محتوياتها" (الكتاب السادس، الفصل الخامس عشر)، وهذه الملاحظة سابقة على الفتح الإسلامي الذي حدث في منتصف القرن السابع" [(صفحة 189)] ..

 

وما يؤُكد أنَّ الحرق والتدمير كان من عادة المسيحيين ووسيلتهم في فرض عقيدتهم، القرار الذي أصدره ((تيودوز الثانى)) والذي ينص على: "حرق كل ما كتبه ((بورفير)) أو غيره ضد عبادة المسيحيين المقدسة لكيلا تقوم هذه الأعمال بإغضاب الرب"، وارد في [((وثيقة: Codex Théodosianus XVI,6,66))]. كما قام [((البابا جريجوار الأكبر)) (590 – 604م)] بحرق المكتبة المعروفة باسم (("الإمبراطورية")) في روما. لذلك يقول ((جي دفيتش)): "لقد تم تنصير التاريخ بالتدريج بخطوات مُتتالية منذ القرن الثاني، وتواصلت عمليات الهدم والحرق والإبادة ليبدأ ما اُطلق عليه (("العصر الأسود")) الذي امتد ألف عام" – ويُقصد عصر الظُلمات الذي شاهد ((محاكم التفتيش)) والحروب الصليبية والحروب الدينية وتحريم العلم ومُحاربة العلماء – وهو ما يتمشى قطعاً مع نفس منهج حرق المكتبات وتدمير المعابد! ..

 

وكذلك تم حرق كل الأعمال التي كانت تتضمن الصراعات اللاهوتية مثل أعمال ((سيلسيوس)) و ((بورفير)) و ((حاكم بيت عانية)) و ((الإمبراطور جوليان))، وما بقي منها فهو معروف من الأجزاء المذكورة كاستشهاد في الرد عليها! ..

وقد أورد ((المؤرخ إدوارد جيبون)): "أنَّ مَنْ حَرَق ((مكتبة الإسكندرية)) هو ((الأسقف ثاؤفيلس))، العدو اللدود للسَّلام والفضيلة، ذلك الجريء الشرير ذو الأيادي الملطخة بالدِّماء والذَّهب على التوالي، وهادم ((السيرابيوم))".. [(قفول وسقوط الإمبراطورية الرومانية، الفصل 28)] ..

 

وعلى أواخر القرن الرابع وصل اضطهاد الوثنيين إلى ذروته، فقد تمَّ هدم مُعظم المعابد، كما قد تم حرق وهدم باقي المكتبات الخاصَّة، وتمَّت مُحاربة العلوم والرياضيات والفلسفة وتم إغلاق المدارس الفكرية ليبدأ عصر اضمحلال رهيب في مدينة اشتهر صيتها عبر العالم القديم كمنارة للعلم والتقدم .. فممن عملوا في مكتبتها الشهيرة ونهل من دُرَرِهَا لمدة عشرين عاما، ((المؤرخ سترابون)) وغيره ..

 

اتهام العرب بحرق المكتبة:

أمَّا عن ذلك النَّص العربي المزعوم، فأوَّل ما أبدأ به هو رأى ((المؤرخ إدوارد جيبون))، في نفس مرجعه السابق الذِّكر، حيث يقول: "إن قرار الخليفة عمر –رضي الله عنه- يتناقض مع المبادئ الأصليَّة والسلميَّة لعلماء المسلمين، الذين يرفضون قطعاً حرق أيَّة نصوص دينية يهودية أو مسيحية تمَّ الاستيلاء عليها في المعارك الحربية ".. وهذا مجرد تعليق منطقي واحد، يتمشَّى مع كُل ما يقوله الأُمناء من علماء الغرب المسيحي عن أخلاقيات المسلمين وتصرفاتهم في البلدان التي فتحوها وحكموها ..

 

وإذا ما نظرنا فيمن قال هذه المعلومة، وهو ((جمال الدين أبى الحسن على بن يوسف القفطي)) [(568ه /1172م ـ 646ه /1248م)]، لوجدنا في موقع (("المكتبة الوطنية لعلم الطب")) في مدينة ((أوكسفورد البريطانية)): "ان له 26 مؤلفا، لم يبق منها سوى اثنين، أحدهما: [("تأريخ الحكماء")] الوارد فيه هذا النص، غير أنَّ هذا الكتاب ليس النَّص الأصلي وإنما تلخيص له بقلم ((الزَوْزَنى)). والكتاب يضم 414 سيرة ذاتية مختصرة لأطباء وفلاسفة وعلماء فلك، إضافة إلى العديد من الاستشهادات المأخوذة عن كتّاب يونانيين لم يّحتفظ بها في الكتاب الأصلي"! وتحتفظ المكتبة الوطنية لعلم الطب بنسخة منه تحت رقم: (Ms A 72). وقد قام بترجمته إلى الألمانية وطبعه العالم ((يوليوس ليبّرت)) في مدينة لايبزيج سنة 1903م ..

وبعد خمس سنوات، أي في عام 1908م، طُبع لأوَّل مرة بالعربية على نفقة ((أحمد ناجى الجمالي)) و ((محمد أمين الخانجى، وأخيه))، بعنوان: [("تأريخ الحكماء")]، وهو ((مختصر الزَوْزَنى)) المُسمَّى [(بالمنتخبات الملتقطات من كتاب "إخبار العلماء بأخبار الحكماء")]، وقد تمَّت مُراجعته على كتاب ((ليبرت)) ..

 

أمَّا السِّياق الذي أتى فيه هذا الاستشهاد فلا يقل افتراء في مغزاه من الفرية نفسها، إذ يقول النَّص أنَّ ((الأسقف يحيى النحوي)) قد طلب من عمرو بن العاص –رضي الله عنه- أنَّ يُعطيه الكتب التي في المكتبة قائلاً: " قد أوقعت الحوطة عليها ونحن محتاجون إليها ولا نفع لكم بها"! ..

 

أي إن ((الأسقف)) وأعوانه، والغارق معهم في الصِّراعات الدِّينيَّة حول ((التثليث))، وفقاً لما هو وارد في نفس صفحة ((القفطي))، هُم يُقدرون العلم وبحاجة إلى الكُتب لصونها من الضَّياع، وأمَّا المسلمون الجهلاء فقاموا بتدميرها!! ..

 

ومن الواضح أنَّ النَّص المزعوم الوارد في كتاب ((القفطي)) كان عبارة عن استشهاد من الاستشهادات المنقولة عن أحد اليونانيين المسيحيين، الذين يعنيهم تبرئة بنى جلدتهم من كل ما اقترفوه من حرائق وتدمير واقتلاع لتراث حضارة بأسرها. خاصة وأنَّ الفترة التي كان فيها ((ابن القفطي)) على قيد الحياة، أو حتى السنة التي تمَّ فيها عمل نُسخة من ذلك الكتاب بعد وفاته بعام، بقلم ((الزَوْزَنى))، فهي تقع في قلب فترة ((الحروب الصليبية)) بكل ما واكبَها من مُحاولات للنَّيْل من الإسلام والمسلمين ..

 

وإذا ما نظرنا من النَّاحية الدينيَّة الإسلاميَّة، لأدركنا لا معقولية هذه الفِرْيَة التي يُشير اليها ((القمص أنجيلوس جرجس))، فقد بدأ تنزيل كتاب الله العزيز بفعل أمر، وهو: ((" اقرأ"))، كما أنَّ ثاني سُورة أُنزلت هي (("سورة القلم")).. أي إنَّ أُولى خطوات تنزيل الرِّسالة الإسلاميَّة من الله عز وجل بدأت بالحث على القراءة والكتابة، وعلى دراسة الكتاب المسطور والكتاب المنظور في رحابة الكون على اتساعه .. فكيف يُمكن لعاقل أن يَعقل فرية أن يقوم سيدنا عمر رضي الله عنه، وهو من صَاحَبَ رسولنا الكريم، صلوات الله عليه، بأن يتفوه بمثل هذا الجُرم – لا في حق العلم والعلماء فحسب، ولكن في حق الدِّين الذي عاصر تنزيله من ربِّ العالمين، وواكب أُولى خُطواته، وعمل على انتشاره؟! ..

 

ولا يسعني إلاَّ أن أقول للقُمص ((أنجيلوس جرجس)): كفى تحريفاً للتَّاريخ في مقالات مُنفّرة لتُثْبت إنَّ مصر كانت قبطية منذ (("صلب المسيح"))، وأنَّ ((مرقس الرَّسول)) قد نصرها في القرن الأوَّل الميلادي، أو أنَّ العائلة المقدسة قد زارتها.. فالأكاذيب لا سند لها في التَّاريخ الذي يقوم بفضحها جذرياً مهما طالت وامتد بقاؤها ..

____________

المقال بقلم العَالِمَةِ الجليلة:  أ. د. زينب عبد العزيز، أستاذ ورئيس قسم الحضارة الغربية بالجامعات المصرية، ومُترجم معاني القُرآن الكريم إلى اللُّغة الفرنسيَّة (وفَّقَها الله) ..